إنزال المساعدات.. إغاثة للجوعى وإبراء للذمم وفوائد أمريكية!

العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني (يسار) على متن طائرة عسكرية خلال عملية لإسقاط المساعدات الإنسانية فوق قطاع غزة (الفرنسية نقلًا عن صفحة الأمن العام الأردني)

 

تأخرت الدول العربية والعالم مِن ورائها، وانتظروا كثيرًا حتى أطلت أشباح الجوع المؤلم والعوز المهين والاحتياج الكاسر من عيون الأطفال والنساء والعجائز في قطاع غزة الذي أصبح رمزًا للإنسانية الغائبة وللضمير المستتر، وللحياة التي تشبه الموت، وللموت الذي يعلو فوق الحياة بما فيها من خذلان ووجع.

في غزة شاشة على امتداد القطاع للعرض المنتهك وللعذابات المقيمة وللآلام الحاضرة، وصورة حية لادعاء العالم أنه متحضر وآدمي، ومثال واضح على أن حقوق الإنسان في حضارة الغرب كذبة كبرى، أو أنها حق قاصر على الرجل الأبيض دون سواه.

أخيرًا جاؤوا

تأخر العالم عن إنقاذ غزة وغوثها، ولكن “أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي أبدًا” فأخيرًا، أخيرًا، وفي الشهر الخامس للعدوان الإسرائيلي على غزة، تحركت أربع دول عربية وخامسة أوروبية لإنزال وإسقاط مساعدات غذائية وطبية على مناطق محددة معظمها في شمالي قطاع غزة ووسطه، في نقاط محدَّدة لا تسمح إسرائيل بوصول المساعدات الإنسانية إليها بسبب تقطيع أوصال القطاع وفصل محافظاته عن بعضها، أو بسبب صعوبة الوصول إليها بفعل مئات الآلاف من أطنان الركام الناتج عن هدم معظم الأبنية والدور على امتداد قطاع غزة.

عملية إنزال المساعدات الإنسانية جوًّا لسكان قطاع غزة نفذتها دولتا الجوار مع الأراضي الفلسطينية (مصر والأردن) ودولتا استضافة مفاوضات الهدنة (قطر وفرنسا) إضافة إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ شكلت جميعًا فريقًا جويًّا لإنزال المساعدات الغذائية والطبية.

البداية أردنية

المملكة الأردنية بدأت إنزال المساعدات في وقت سابق للمستشفى الأردني في القطاع، وقد كانت خطوة رمزية إلى حد كبير، إذ إن المستشفى كان متوقفًا تقريبًاِ عن استقبال المصابين لكن طواقمه الطبية ومعاونيهم كانوا في أمسّ الحاجة إلى مواد إغاثية بشكل طارئ، كما شاركت دولتا قطر والإمارات مع الأردن في إنزالات سابقة.

ويُعَد هذا الإنزال هو الثالث عشر الذي يتم منذ بدء العدوان الإسرائيلي المدمر على غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، لكنه الإنزال الثاني فقط الذي يوجَّه مباشرة إلى سكان قطاع غزة المنكوبين، بينما كانت العمليات المحدودة السابقة موجَّهة إلى المستشفيات والطواقم الطبية بها.

مصر تتحرك

القوات المسلحة المصرية شاركت في عملية إنزال المساعدات وأسقطت نحو خمسين طنًّا من المساعدات الغذائية، كما انتهت من إقامة معسكر الإيواء الثاني الذي تقيمه للنازحين الفلسطينيين في جنوبي قطاع غزة، وهي بصدد إعداد معسكر إيواء ثالث شمال دير البلح، وفق ما أُعلن في القاهرة.

وفي محاولة لتخفيف الضغط على المستشفيات المصرية في محافظة شمال سيناء المتاخمة لقطاع غزة، تستعد القاهرة لإقامة مستشفى ميداني مصري داخل القطاع يتضمن غرف عمليات مجهزة.

ويعاني القطاع الصحي الحكومي في مصر بشكل عام ضغطًا كبيرًا نتيجة نقص المخصصات في الميزانية، وعدد الأطباء وطواقم التمريض، وقد فاقم العدوان على غزة من الضغوط على هذا القطاع خاصة في محافظة شمال سيناء المتاخمة لقطاع غزة.

وهناك عشرات الآلاف من الطلبات المقدمة من الجرحى الفلسطينيين وعائلاتهم للسفارة المصرية في رام الله بالضفة الغربية (عبر الإنترنت) للسماح بدخول مصر للعلاج مع انهيار المنظومة الصحية في كل أنحاء غزة المنكوبة.

وقد أقامت القاهرة مستشفى ميدانيًّا في مدينة رفح المصرية الحدودية لاستقبال الحالات القادمة من قطاع غزة عبر “بوابة صلاح الدين”، لكن استمرار العدوان وتفاقم الإصابات وارتفاع أعدادها بشكل كبير، فضلًا عن الاحتياج إلى عنصر السرعة في التعامل الطبي وتوفير العلاج والإسعاف الفوري، جعل هناك ضرورة لتكثيف المساعدات الطبية للقطاع عبر إنشاء مستشفيات ميدانية تتولى علاج عشرات الآلاف من المصابين والمرضى العاديين في أنحاء غزة.

ولا يبدو أن مصر ستكتفي بإنشاء مستشفى واحد، فواقع الحال قد يستلزم على الأقل نحو خمسة مستشفيات موزعة على محافظات القطاع المنكوب إن لم يكن أكثر.

ومع منع إسرائيل للفلسطينيين من التوجه نحو مستشفياتها أو مستشفيات الضفة الغربية، فإن مصر تتحمل وحدها عبء العلاج خارج القطاع، ولذا كان من اللازم البدء في توجه مختلف يعتمد على توفير العلاج “هنا (في غزة) والآن”.

وبالتأكيد فإن عمليات إنزال المساعدات التي نفذتها طائرات الدول الخمس تمت بتنسيق أمني وعسكري مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، لكن كبر حجم العملية هذه المرة ربما يلمح إلى قرب التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار.

الرئيس الأمريكي جون بايدن قال إنه يتوقع أن يكون هناك وقف لإطلاق النار بحلول يوم الاثنين المقبل، كما كشف أن إسرائيل وافقت على وقف ما سمّاها “الأنشطة العسكرية” خلال شهر رمضان، مُطلقًا تحذيرات نادرة لإسرائيل بأنها تخاطر بفقد دعم المجتمع الدولي مع استمرار سقوط “القتلى الفلسطينيين” بأعداد كبيرة.

ويبدو أن عملية الإنزال وإنشاء معسكرات للإيواء ومستشفيات ميدانية هي جزء من ترتيبات قد تشارك فيها الدول الخمس، تسمح فيها إسرائيل بمد يد المساعدة إلى القطاع المحاصر عقب وقف إطلاق النار المرتقب.

فجوة في الموقف

ورغم إعلان الرئيس الأمريكي قرب التوصل إلى تفاهم بشأن وقف إطلاق النار، فإن ردود فعل حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ألمحت إلى أن هناك فجوة في المواقف بينها وبين إسرائيل، وأن التوصل إلى اتفاق لا يزال بعيدًا، وهو أمر يؤشر إلى أن وقف إطلاق النار أصبح ضرورة أمريكية بصرف النظر عن تفاصيل الهدنة، وأن واشنطن تضغط على الطرفين لتليين المواقف حتى وإن استدعى الأمر وقف إطلاق النار ثم استكمال التفاوض حول صفقة تبادل الرهائن الإسرائيليين والأسرى الفلسطينيين.

وتتزايد الانتقادات داخليًّا وخارجيًّا للموقف الأمريكي الداعم لإسرائيل بسبب استخدامها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن ضد أي قرار لوقف إطلاق النار، كما يخاطر الرئيس الأمريكي بايدن بفقدان حظوظه في الفوز بالانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي في ولاية “ميشيغان” التي تحظى بجالية عربية كبيرة ومؤثرة، وفق استطلاعات الرأي العام في الصحافة الأمريكية.

ويبدو أن إعلان بايدن أنه يتوقع وقف إطلاق النار يوم الاثنين المقبل مرتبط بأن الانتخابات التمهيدية تجري الثلاثاء في الولاية التي فاز بها بايدن بفارق ضئيل في الانتخابات الرئاسية قبل ثلاث سنوات، لكنه يواجه فيها الآن تحديًا من حملة “استمع إلى ميشيغان” التي نظمها ناشطون عرب يدعون إلى عدم انتخابه على خلفية موقفه الداعم لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يرأس حكومة يمينية تضم غلاة المتطرفين.

وإذا ربطنا بين موقف بايدن المتراجع في استطلاعات الرأي وتوقعه وقف إطلاق النار والسماح بإنزال عشرات الأطنان من المساعدات الغذائية على قطاع غزة، فإننا سنكتشف أن العملية الأخيرة تنطوي على إغاثة محدودة للجوعى في كتلة سكانية مزدحمة تحتاج يوميًّا إلى 500 شاحنة في الأحوال العادية، كما أن هذه العملية أيضًا إبراء إعلامي للذمم أمام الرأي العام في المجتمعات العربية، لكنها هناك في “بلاد العم سام” تحقق فائدة قد تكون محدودة أيضًا للرئيس الأمريكي الذي يؤثر موقفه من العدوان على غزة في حظوظه لنيل بطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطي، وفي درجة الثقة بأنه يستطيع مجددًا هزيمة منافسه الرئاسي المرتقب دونالد ترمب. ويوم الثلاثاء المقبل، ستكون لحظة الحقيقة بالنسبة لبايدن، إذ سيتضح إن كان إنزال المساعدات سيصاحبه ارتفاع في شعبيته، أم إن بايدن تحرك متأخرًا وأن مصيره هو الغرق في “بحر غزة” الذي صارت أمواجه دموعًا وأنات ودماء.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان