قبل أن يرحل الشهر.. مبارك وفبراير

مبارك

قبل أن يرحل شهر فبراير ألحّت عليّ ذكرى وفاة حسني مبارك الرئيس الأسبق لمصر في 25 فبراير 2020، وقد حلّت تلك الذكرى بلا أثر في الحياة السياسية والاجتماعية المصرية، فلم يتذكره أحد على الإطلاق، وهو أيضا شهر غياب مبارك عن مقعد رئاسة مصر الذي جلس عليه مدة 30 عاما كانت سمتها الكبرى أنها بلا أثر حقيقي في تاريخ السياسة المصرية.

عاش مبارك على كرسي الحكم في مصر “كموظف رئاسي” بتعبير محمد حسنين هيكل والكثير من السياسيين المصريين والعرب، ولم يكن له دور كبير إلا في عودة العلاقات مع الدول العربية في أولى سنوات حكمه، وتدمير تلك العلاقات بعد سنوات قليلة بموقفه من حرب الخليج الأولى 1991، وحرب تدمير العراق واحتلالها في 2003، حيث لا يزال الكثيرون من الساسة العرب والمصريين يرون أنه كان على مصر أن تؤثر في نهاية أخرى للمعركة في الحالتين.

رحل مبارك عن كرسيه الذي لم يكن يحلم به بثورة شعبية في مظهرها الخارجي بمشاركة الآلاف ثم الملايين من المصريين الذين كان يحدوهم الأمل في حياة أفضل بعده، وتطلعوا لدور أكثر تأثيرا لمصر في محيطها العربي والإقليمي، أو في سياستها الداخلية، وكان الزخم الشعبي رافضا لتوريث السلطة لجمال مبارك، وإن تبين بعد ذلك أن فكرة معارضة التوريث رغم قبولها شعبيا كانت مدفوعة بأجهزة داخل نظام مبارك نفسه، فكانت نهاية دولة مبارك السياسية في مساء 11 فبراير/شباط 2011.

لماذا مبارك؟

يتردد السؤال في عقلي عن جدوى فكرة الكتابة عن مبارك في ظل ما يحدث في غزة من إبادة جماعية ومذابح يومية على مدار الساعة لأطفالها ونسائها، وفي ظل تخوفات من اجتياح بري لرفح فلسطين على الحدود المصرية، وقد نزح إليها ما يقارب مليون ونصف مليون فلسطيني.

إن حدث هذا الاجتياح فستكون المذبحة الدموية الكبرى في تاريخ العالم الحديث، وأتساءل هل ستأخذ مصر نفس الموقف الذي اتخذه مبارك عندما اجتاحت قوات التحالف الغربية بقيادة الولايات المتحدة العراق ودمرته، فما موقف مصر الآن والتدمير والمدمرون يقفون على حدودها الشرقية التي كانت طوال التاريخ بوابة غزوها واحتلالها.

رحل مبارك منذ أربع سنوات عن الحياة، ولم يبق من أثر حكمه سوى بعض الحسرة على الأوضاع الاقتصادية لمصر في عهده من قبل فئات شعبية عديدة، بعدما التهمت أيامهم وثرواتهم إصلاحات صندوق النقد الدولي.

رغم الأصوات التي صاحبت العقد الأول لحكمه رفضًا لسياسات الانفتاح الاقتصادي واتجاه مصر إلى صندوق النقد والبنك الدولي، فإن الشعب يذكر لمبارك اليوم عدم مجاراته سياسات الصندوق، ربما يعود هذا إلى نشأة مبارك الاجتماعية كابن للريف المصري التي أورثه أهمية رغيف العيش للمصريين، وكذلك لخوف مبارك الدائم من تكرار تجربة يناير 1977 التي سببت خللا شعبيا في شرعية أنور السادات الرئيس الأسبق؛ ولذلك ظلّ شبح تلك الانتفاضة يهدد مبارك حتى جاء يناير 2011 لينهي حكمه الطويل جدا.

أثناء ثورة يناير -إذا جازت التسمية- لم تكن أحوال مصر الاقتصادية سببا رئيسا في قيامها بل كانت كل الإرهاصات متجهة إلى ممارسات الجهاز الأمني، وما يحدث في مراكز الشرطة، إلا أنه كان للمصريين طموح في حياة اجتماعية واقتصادية أفضل فرفعوا شعار العيش، والحرية والعدالة الاجتماعية أثناء الثورة تعبيرا عن تلك الطموحات، وها هي الأيام تمر ليشعر المواطن المصري بأن أيام مبارك كانت أرحم كثيرا اقتصاديا.

هل نبرّئ سنوات مبارك أو نجمّلها؟ قطعًا لا؛ فرغم هذا الحنين الذي يتراءى للمواطن البسيط لزمن مبارك فإنه لا يمكن التجاوز عن كل ما سببته سياساته من تدمير للحياة المصرية، فقد دمر مبارك ورجاله البنية الرئيسية للحياة في مصر، ولا يمكن نسيان الخطايا الكبرى في تدمير الزراعة المصرية وتكثيف التعاون مع الكيان الصهيوني، وتدمير البيئة السياسية بظهور الأحزاب المدجنة، والحياة الثقافية وحظائر المثقفين، ومشوار تدمير الإعلام المصري، وكوارث نظامه في الفساد والإفساد الاقتصادي، والآلاف من الشهداء في حوادث كثيرة في البر والبحر، مثل العبارة سالم، وقطار الصعيد، وقصر ثقافة بني سويف.

فبراير ومبارك

لا يرحل شهر فبراير إلا ويخطر بذهني علاقة مبارك الغريبة بهذا الشهر، فلا يمكن نسيان ما حدث لمبارك في 25 و26 فبراير/شباط 1986 وما أطلق عليه حينها انتفاضة الأمن المركزي. ولما حدث في مراكز تدريب الأمن المركزي آنذاك له أسراره التي قد لا نعرفها، ولكن كانت هناك إشاعات عن صناعة تلك الاضطرابات للتخلص من أحد وزراء الداخلية المصرية المشهود لهم حتى الآن بالكفاءة والنزاهة وهو اللواء أحمد رشدي، فلا ينكر لهذا الرجل إعادة الانضباط للشارع المصري، ومحاربته لتجارة المخدرات في مصر.

لكن الإشارة في تلك الأحداث كانت إلى حالة الغضب الشعبية ضد نظام مبارك بعد سنوات قليلة من حكمه، فقد انتشر الغضب من المعسكرات إلى الشارع وحدث هجوم على بعض الأماكن والفنادق في شوارع القاهرة والجيزة خاصة شارع الهرم.

انتشر الغضب بين شباب الجامعات المصرية، وحدثت مواجهات مع الشرطة المصرية، وإزاء اتساع الغضب في الشارع اضطر مبارك إلى الاستعانة بالجيش المصري لإعادة الهدوء إلى الشارع، وكانت تلك المرة الأولى التي ينزل فيها الجيش إلى الشارع في عصر مبارك، وأُعلنت حالة الطوارئ، وفُرض حظر التجوال.

كانت معركة الجمل في 2 فبراير 2011 وبعد ربع قرن من انتفاضة الأمن المركزي هي الرصاصة القاتلة لنظام مبارك وعصره كاملا، فقد انتهى ليل الأول من فبراير بخطاب عاطفي استمال فيه نظام مبارك الغالبية العظمى من الجماهير الغاضبة استمالة عاطفية أدركها كاتب الخطاب الأول له بعد ثورة الغضب الشعبية، وأصدر مبارك قرارات بتغيير الحكومة، وخاصة وزير الداخلية، ووعد بعدم توريث الحكم لجمال مبارك.

معركة الجمل نهاية عصر كامل

وجاء صباح اليوم التالي ليحمل مفاجأة كبرى للذين يعتصمون بالميادين وخاصة ميدان التحرير، ولنظام مبارك نفسه فقد هاجم الكثير من مؤيدي مبارك ميدان التحرير بعد أن وصلوا إليه من منطقة الهرم وميدان مصطفى محمود الذي كانوا يعتصمون فيه، والحقيقة أن وصول تلك الجماهير إلى ميدان التحرير واعتداءهم على المعتصمين فيه كان أكبر ضربة لنظام مبارك الذي بات ليلته وفي قلبه بعض الاطمئنان على أنه سيستمر! لكن يبدو أن هناك من كان يرى أنه آن لمبارك أن يرحل بنظامه ليبدأ نظام جديد.

لم تكن معركة الجمل رصاصة النهاية لنظام مبارك السياسي فقط بل يمكن القول إنها كانت نهاية الحياة السياسية للعصر بكامله، أحزابه، تياراته السياسية العامة، شخصيات هذا العصر ورجالاته جميعا من كل التيارات، وتولت القوات المسلحة القيادة.

بدأت بعد هذا اليوم معركة جمل جديدة أو استكملت معركة الجمل خلال ثلاث سنوات للخلاص من كل ما تمثله سنوات حكم مبارك من حياة سياسية فتم انتهاء عصر الأحزاب السياسية والحركة العامة على مدار السنوات الثلاث، واختفت الحياة السياسية، والحركة العامة تدريجيا.

وفي انتظار ميلاد جديد لتلك الحياة لا تتبين خطوطه حتى اللحظة، توفي مبارك منذ ثلاث سنوات، ولم يبق من حكمه أي أثر سوى تلك القصة الإنسانية حول سارق القبور وولده، فقد خشي الأول من لعنة الناس له لأنه يسرق القبور، فوعده ابنه بأنه سيجعلهم يترحّمون عليه، فكانت فعلته أكثر بشاعة من أفعال أبيه، فترحّم الناس على الراحل وأيامه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان