مصر التي في “معرض الكتاب”

زيارة واحدة لبضع ساعات أجريتها لمعرض القاهرة الدولي للكتاب نهاية الأسبوع الماضي كانت كافية لرؤية مصر المختفية عن العيون رغم حضورها الدائم، كانت الزيارة كافية لمشاهدة “مصر المدنية” الشابة القارئة المنفتحة على العالم وعلى الأفكار والحضارة، ومصر التي أخرجت المئات من الموهوبين والمبدعين الذين تحايلوا طوال سنوات مضت على مناخ خانق، حاصر الموهبة والإبداع والتعبير بشكل قاس وغير مسبوق، فأنتجوا كتابات مهمة ومبدعة ومشاغبة وشيقة، وحاولوا الإفلات من مقص الرقيب باللجوء إلى الرمز و”الفانتازيا” والكتابة الذاتية.
ثلاثة مشاهد رئيسة تستحق الوقوف أمامها بعد جولتي في معرض الكتاب، تلك المشاهد في تقديري تتجاوز الزيارة لتصل إلى تحليل عن مصر وإبداعها وأجيالها المقبلة، وتكشف عن تطور وجرأة لافتة سواء في النصوص المكتوبة أو في اختيار دور النشر لها، وتؤكد أن الكلمة تحلق وتطير وتصل إلى مستهدفها ومبتغاها مهما كانت قوة من يتتبعها بالمقص، أو يستوقفها بالأسوار.
احتشاد شاب
منذ اللحظة الأولى وعلى البوابات الخارجية للمعرض تبدو الملاحظة الأولى هي الاحتشاد والزحام الكبير بين صفوف الشباب الزائرين للمعرض، ثم تصبح الملاحظة أوضح بمجرد الدخول والتجول بين صالات عرض الكتب، آلاف من الشباب والفتيات في العشرينيات والثلاثينيات من العمر، يتجولون بين دور النشر، يتابعون عناوين الكتب ويصطفون بالطوابير أمام “الكاشير” رغم الغلاء الواضح والكبير في أسعار الكتب، مشهد مبهج ومبشر إلى أقصى مدى.
بنظرة سريعة على الطوابير نستطيع أن ندرك أن الاهتمامات في وسط هذه الأجيال تتنوع بين الأدب والسياسة والتاريخ والعلوم والتكنولوجيا وغيرها من كتب متنوعة يتيحها المعرض لجمهوره، هذا المشهد البديع كاشف لأن الغالبية العظمى من زوار معرض الكتاب هم من الأجيال الشابة، بما تعنيه هذه الملاحظة من معان لا تخفى، ومن اطمئنان على أجيال جديدة تهتم بالقراءة والاطلاع والتعلم، وتشتبك مع العالم بأفكاره وتقدمه، وتلحق بعصرها الحديث بعد أن تخرج -بالاطلاع- عن كل صور الوصاية والتسلط على الأفكار، ثم أنها أجيال هناك ما يشير إلى أن وعيها لن يتشكل على السمع والطاعة، ولن يسيطر على عقلها شعارات مستهلكة أو إعلام ساقط.
أسماء شابة على أغلفة الكتب
في الاتجاه نفسه، وبينما كانت الغالبية من جمهور القراء شابة، كان كثير من الكُتاب ينتمون إلى أجيال الشباب أيضًا، تستطيع أن تلمح أسماءهم على أغلفة الكتب بسهولة، هؤلاء الذين احترفوا الكتابة خلال السنوات السبع الماضية في مناخ صعب وتسلط غير طبيعي على الأفكار، كثيرون منهم رفضوا الوصاية أو السير مع القطيع، وربما كانت المفارقة هي خروج هؤلاء الكُتاب من وسط الحصار الخانق، وكأن هناك علاقة طردية بين الكتابة والمنع، بين الإبداع والتضييق، أو كأن الحصار هو ما يستفز الكاتب الحقيقي لكي يشتبك مع الواقع المظلم ليغيّره إلى الأفضل، وهو يفعل ذلك على أمل أن تسهم كلمته في بناء مستقبل مختلف، أو كأن التسلط -وهو العدو الأبدي للكلمة الحرة والفكرة المبدعة- يحفز مشاعر وأفكار الموهوبين والمسكونين بالكتابة والإبداع، ويستفز الشجاعة الكامنة بداخل كل من يرغب في أن يصل بكلمته وأفكاره إلى القارئ حتى لو كانت الأثمان كبيرة والضريبة غالية.
المؤكد أن الروايات وكتب الشعر والأدب والفكر التي تحمل أسماء الأجيال الشابة وتصطف على الأرفف بشكل لافت ومثير للراحة كانت تعبيرًا جديدًا عن أن أحدًا لا يستطيع حصار الأفكار، وأن الكلمة الصادقة ستصل إلى دربها في نهاية المطاف.
الأمر لا يقف عند حدود النشر، ففي الاطلاع على طبيعة هذه الكتب التي تنتجها أجيال شابة كان واضحًا أن الكاتب الذي يحمل الرسالة لا يمكن حصاره، فكثير من الكُتاب -هروبًا من الرقيب- لجأوا إلى الرمز، أو القصص “الفانتازية” التي تشي للقارئ بالمعنى دون تصريح، أو حتى للكتابة الذاتية، تلك التي تشتبك مع الهم الوطني، ولا ينفصل فيها الشخصي عن العام.
طالعت كتبًا تحكي قصة السنوات العشر الأخيرة منذ بدء ثورة يناير، وتصف بروح شابة وحزينة قصة جيل يناير وما تعرّض له، ثم في القلب من حكاية هذا الجيل تستطيع التعرف على مآلات ثورته، مثل رواية الكاتبة الشابة نورا ناجي “سنوات الجري في المكان” تلك الرواية البديعة التي حكت فيها الكاتبة برؤيتها ومشاعرها “ما جرى” خلال عشر سنوات محملة بالغضب والارتباك والثورة والأمل والإحباط بصورة أدبية وفنية مميزة ومختلفة.
على الطريق نفسه كانت رواية “المشاء العظيم” للكاتب والأديب أحمد الفخراني، الذي ينتمي إلى جيل نورا ناجي نفسه تقريبًا، والذي يشير في روايته البديعة برمزية لا تخفى على أحد إلى فساد الأوساط الثقافية، وكيفية الوصول إلى القمة بالتزييف والسرقة بعيدًا عن الموهبة، وعلى درب الجيل الجديد نفسه كانت رواية الكاتبة الشابة مريم “السيرة قبل الأخيرة للبيوت”.
في أجواء وأوساط ثقافية ملفقة ومليئة بالزيف وصعود عديمي الموهبة، وفي ظل مناخ مقيد لا يتيح أي “خرم إبرة” للإبداع، بدت “محاولات” أجيال شابة لكتابة نصوص جادة ومهمة تشتبك مع الشأن العام أمرًا لافتًا وجديدًا، فطوال سنوات الحصار لم يكن ممكنًا الاطلاع على كتابات على المستوى نفسه الذي ظهر في معرض الكتاب خلال دورته الحالية، تلك التي يمكن أن نعُدها لأول مرة منذ مدة طويلة تحت “سيطرة” الأجيال الجديدة كُتابًا وقراءً.
دور نشر تحت الحصار وأخرى تكسره
رغم منع عدد من المكتبات ودور النشر من المشاركة في معرض الكتاب هذا العام ضمن الحصار المفروض على المجال العام منذ سنوات فإن هناك دور نشر أخرى -بعضها خرج قريبًا- باتت أكثر جرأة فيما يتعلق بالنشر، وحاولت بقدر الإمكان تقديم إنتاج فكري وأدبي خارج السيطرة، تحتكم فيه إلى جودة النصوص فقط دون حسابات كثيرة تتعلق بالمحاذير والخطوط الحمراء، وهو تطور مهم يستطيع كل متابع للمشهد الثقافي طوال السنوات الماضية ملاحظته جيدًا، فهناك جرأة -أو تجرؤ- على الممنوعات، وهناك محاولات لدور النشر الجديدة والقديمة لتقديم مادة منشورة مختلفة ومميزة ولا تخشى الاشتباك مع الهم العام، ولا تخضع لمحظورات كانت مفروضة على النشر طوال السنوات السبع الماضية.
المؤكد أن هناك تطورًا واضحًا حدث فيما يتعلق بحركة النشر خلال معرض الكتاب الحالي، وهناك أيضًا رغبة لدى الكُتاب والناشرين على السواء في تقديم محتوى جديد وجاد ومميز، وهو أمر مفيد ومهم في طريق طويل تحاول فيه مصر استعادة قوتها وقدرتها في مجال النشر والإبداع، هذا الطريق بدايته هو وصول إبداع من يكتب ومن ينشر إلى القارئ، والتخلص من كل صور التسلط على العقل، وهو درب يمكن النجاح فيه إذا استمرت المحاولات الحقيقية لكسر القيود ونشر الفكر، ففي زماننا بات مستحيلًا حصار الأفكار أو تقييد الإبداع، فالكلمة الصادقة ستصل إلى قارئها لأنها تكسر الحواجز وتحلق في السماء وترتفع مثل الطيور والعصافير، لا تطلب تأشيرة دخول.