ماذا يقول اليوم الذين هتفوا بالأمس: “يا سيد بيه.. كيلو اللحمة بقى بجنيه”؟!

ذكّرني شخص ما، وهو مذهول، بما كنت قلته يومًا بأن الكيلوغرام من دجاج المزارع (الفراخ البيضاء) سيصل ثمنه إلى 100 جنيه.
ساعتها أخذته الدهشة، وحدّث نفسه مستغربًا: ماذا يقول هذا الرجل السوداوي المتشائم؟
فقد كانت أسعار الدجاج تتزايد، لكنها تظل في نطاق الاحتمال، مع آمال بتراجعها، فقد اعتاد الناس الصعود والهبوط المعقول في السعر، لكن أحدًا لم يكن يتصور أن تحدث قفزات متواصلة لهذا البروتين الأبيض الذي يأتي بعد اللحوم البلدية الطازجة.
السبت الماضي، أقفل سعر كيلو الدجاج الحي 100 جنيه فعلًا، ولهذا جاء التذكير بالحديث القديم الذي لم يكن قابلًا للتصديق في حينه.
وفي اليوم التالي (الأحد) بلغ 105 جنيهات، أما الدجاج البلدي فقد تجاوز سعر الكيلو فيه 120 جنيهًا.
سياسات غير رشيدة
ما قلته قبل مدة تزامنًا مع مؤشرات صعود غير طبيعي للأسعار لم يكن استشرافًا للغيب، إنما توقع لمآلات سياسات عامة فاقدة للرشد، وإدارة محدودة الكفاءة، ومشروع تنمية متعجل لا يعتمد على دراسات جدوى ورصد دقيق للأولويات والاحتياجات الضرورية، وحسابات الموارد المتاحة وضوابط الإنفاق العام، وليس الاستدانة والبهرجة والمشروعات القليلة أو المؤجلة العائد.
أحيانًا كنت أميل إلى التلطيف وأقول إن مشروع التنمية طموح لكنه متسرع، وكان يجب تجزئته وتنفيذه على مهل وخلال مراحل بالتوازي مع تحسين التعليم والصحة وتوفير العيش الكريم وحماية الشرائح الاجتماعية الضعيفة والفقيرة وإعادة ترميم الطبقة الوسطى.
وبناء الدول وتأسيس نهضتها ليس بالضرورة أن يتم في يوم وليلة، بل العقلاني أن يكون ذلك خلال أمد زمني طويل مخطط بعناية، خاصة عندما يكون في بلد حجمه كبير وتعداد سكانه يتجاوز 100 مليون مثل مصر.
ديون هائلة
والمشكلة أنه لم تتوفر موارد مالية ذاتية لإنجاز المشروع الذي طرحته السلطة، وكان كل انشغالها إنجازه بأي ثمن ولو بالاستدانة التي غرقنا فيها ولا ندري اليوم كيف ندبّر أقساط وفوائد الديون الخارجية المستحقة التي فاقت 165 مليار دولار، ناهيك عن الديون الداخلية الضخمة.
وبسبب نضوب حصيلة النقد الأجنبي فإن الحكومة تعاني في تدبير ما تستورد به السلع الغذائية الأساسية بجانب مستلزمات تشغيل المصانع.
لهذا تنفجر الأسعار انفجارًا تعجز السلطة عن السيطرة عليه، فتترك الأسواق للفوضى والجشع والاحتكار، ويصاب المواطن بالصدمة مما يعيشه من أوضاع شديدة القسوة ومما لم يحدث مثله من قبل حتى في ظل حرب 1967.
نعم كيلو الدجاج تجاوز 100 جنيه، وثمن دجاجة لعائلة متوسطة العدد (خمسة أفراد) يبلغ 300 جنيه، وهذا يُعَد جنونًا، فمصر تنتج دواجن تكفي السوق المحلية، وكان يتم تخفيض السعر في أيام ومواسم عديدة طوال السنة لتصريف الأعداد الكبيرة من الدجاج التي تربيها المزارع.
لكن بسبب ندرة العملة الصعبة لا توجد أعلاف لأنها مستوردة، والبنوك لا تغطي طلبات الاستيراد، فيتم اللجوء إلى السوق الموازية للدولار، وسعره فيها ضعف سعره المعلن في البنوك التي تعاني خزائنها شح العملات الصعبة، لهذا باتت الأسعار مثل حمم من جمر لاهب يقذفها بركان الفشل في تسيير الشأن العام.
من جنيه إلى 450 جنيهًا
واللحوم البلدية الحمراء تعانق السماء هى الأخرى، فالكيلو بـ400 جنيه اليوم في الريف والمناطق الشعبية، و450 جنيهًا في المناطق الأخرى، وهذا الأمر كان خارج التصور تمامًا.
وأتذكر كيلو اللحم الطازج “أبو سبعين قرشًا” نهاية السبعينيات من القرن الماضي، وليت الذين هتفوا في مظاهرات 18 و19 يناير 1977 قائلين “سيد بيه يا سيد بيه، كيلو اللحمة بقى بجنيه” يتحدثون عن مشاعرهم اليوم عندما تضاعف سعر الكيلو 400 ضعف خلال 47 عامًا.
هل يأخذهم الحنين مرغمين إلى عهد السادات وسيد مرعي رئيس مجلس الشعب حينئذ، عندما هتفوا باسمه صارخين ومحتجين بأن كيلو اللحم بلغ سعره جنيهًا؟ هذا الحنين يتزايد -بأكثر من وتيرة ارتفاع الأسعار الجنوني- لكل العهود السابقة، ليصدق من قال إن ماضي مصر أفضل من حاضرها دائمًا.
زيت وسكر
أما زجاجة الزيت عبوة لتر واحد فقد بلغ ثمنها 100 جنيه أيضًا، وعليه لم يعد ثمن حبة الفلافل جنيهًا، إنما الثلاث حبات بخمسة جنيهات تضعهم في رغيف ثمنه ثلاثة جنيهات ونصف الجنيه ليكون ساندويتش ريوق (غيار أو تغيير ريق) قبل وجبة الإفطار.
والسكر أصبح عزيزًا في بلد منتج كبير له، وقبل أشهر تجاوز سعر الكيلو 50 جنيهًا، وأثار ذلك ضجيجًا، ولكي تداري الحكومة غيابها أو إخفاقها سعت لتوفير كميات منه بسعر 27 جنيهًا للكيلو، ولكنه بيع بأكثر من هذا السعر، ولم يستمر ذلك طويلًا، فقد عاد مجددًا للاختفاء مع اقتراب سعره من 50 جنيهًا، وهذا الارتباك والانفلات لا يليق بحكومة تدير (عزبة) وليس دولة، وهذا مظهر من أوجه عجز وإخفاق عديدة.
وإذا كنا نقول تخفيفًا إن تزايد الأسعار لا يتوقف، فالحقيقة أنه يتغير على مدار اليوم، والإعلامي (المتلون) عمرو أديب يضرب مثلًا بالجبنة الرومي قائلًا إن سعرها يتغير وأنت داخل “السوبر ماركت”.
السلطة المطلقة
نحن إزاء تجسيد واضح للعبارة الذهبية “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة”، وكما في أمريكا تمثال الحرية بما يرمز إليه من معان وقيم سياسية وحقوقية وإنسانية نبيلة، فإن مقولة السلطة المطلقة يجب أن تكون شعارًا سياسيًّا مقدسًا لكل بلد يريد الرشد والحكمة والمسؤولية في إدارة شؤونه خاصة عندما يعاني خللًا مزمنًا في معظم مؤشرات اقتصاده.
ليس شرطًا أن يكون الإنجاز بالتوسع الجامح في البنية التحتية والمنشآت العالية، إنما الأهم حفظ كرامة الناس بجعل وجبة طعامهم متوفرة ويسيرة، فما قيمة بناء قصر فخيم بينما سكانه قد لا يجدون رغيف الخبز؟