المائي والمالي.. “التقاء الفقرين” في مصر
هل يمكن أن تحتمل دولة ما أن تصاب بفقر مزدوج؟ أي تصاب بالفقر المائي وهو انخفاض متوسط نصيب الفرد السنوي من الماء، وأن يتواكب ذلك في الوقت نفسه مع انخفاض الدخل والقدرة المالية للمواطن وعجزه عن تلبية احتياجاته الأساسية.
ومن الواضح أن نوعًا واحدًا من الفقر قد يكفي لتدشين معاناة شعب في هذه الأيام التي تضرب فيها أزمات متنوعة الاقتصاد الدولي، لكن يبدو أن مصر التي تطل على بحرين (الأبيض والأحمر)، يلتقيان عبر قناة السويس مقبلة على أيام صعبة قد تواجه فيها ما يمكن وصفه بـ”التقاء الفقرين”.
وترى الأمم المتحدة أن “الفقر أكثر من مجرد الافتقار إلى الدخل أو الموارد أو ضمان مصدر رزق مستدام، حيث إن مظاهره تشمل الجوع، وسوء التغذية، وانحسار إمكانية الحصول على التعليم والخدمات الأساسية، إضافة إلى التمييز الاجتماعي والاستبعاد من المجتمع وانعدام فرص المشاركة في اتخاذ القرارات”.
الدولة الأكبر
ووفقًا للمجلس العربي للمياه فإن هناك 18 دولة عربية تحت خط الفقر المائي الذي حددته الأمم المتحدة وهو أقل من ألف متر مكعب سنويًا، لكن مصر هي الدولة الأكبر بينها من حيث عدد السكان، وكذلك الأكبر في معدل الزيادة السكانية السنوية.
وقبل نحو شهر أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن تعداد المصريين بلغ نحو 106 ملايين نسمة في يناير 2024، ويعني استمرار معدل الزيادة السكانية مع ثبات الموارد المائية أو انخفاضها بأن يقل نصيب الفرد مستقبلًا في مصر عن نصيبه حاليًا.
وتعاني مصر فقرًا مائيًا متزايدًا، إذ يبلغ نصيب الفرد فيها نحو 526.1 مترًا مكعبًا في السنة، ووفقًا للدكتور محمود أبو زيد وزير الموارد المائية والري المصري السابق فإنه من المتوقع أن يقل نصيب الفرد عن 350 مترًا مكعبًا، وذلك في عام 2050 إذا استمرت الزيادة السكانية في مصر على وتيرتها الحالية مع ثبات الموارد المائية أو انخفاضها خلال تلك المدة التي يتوقع أن يصل فيها عدد السكان لنحو 175 مليون نسمة.
وتعاني مصر عجزًا مائيًا يبلغ حوالي 21 مليار متر مكعب، ولكي تسد مصر هذا العجز وتردم الفجوة بين مواردها المائية واحتياجاتها، فإنها لجأت لمعالجة مياه الصرف الصحي كأحد الحلول.
وفي إطار استراتيجية الحكومة المصرية للتنمية المستدامة (رؤية 2030) الذي أطلقت عام 2015، فإن إعادة استخدام مياه الصرف الصحي أولوية استراتيجية للاستفادة منها في بعض احتياجات الري مثل زراعة الأشجار أو المحاصيل التي تتوافق مع خصائص المياه المعالجة أو توجيهها للاستخدام في مجالات الصناعة المتعددة، ولدى مصر 3 من بين أكبر محطات معالجة مياه الصرف الصحي في العالم، وذلك في مناطق بحر البقر بمحافظة الشرقية، وأبو رواش بمحافظة الجيزة والجبل الأصفر بمحافظة القليوبية.
وتقضي خطة الدولة المصرية ببناء 691 محطة لمعالجة مياه الصرف الصحي، وقد أنجز منها نحو ثلثي هذا العدد، كما نفّذت الحكومة خططًا لترشيد استغلال المياه في الزراعة عن طريق تقديم حوافز للمزارعين وأصحاب المشروعات لتعميم الري بالتنقيط بدلًا من الري بالغمر.
سد النهضة لم يؤثر بعد
وبرغم أن مشكلة كبرى مثارة منذ سنوات بين مصر والسودان من جهة ومع إثيوبيا من جهة أخرى بسبب قيام الأخيرة بإنشاء سد النهضة على النيل الأزرق متجاهلة الحقوق القانونية والتاريخية لمصر والسودان، فإن مصر على الأقل لم تتأثر حتى الآن بمراحل ملء خزان السد الذي أنجزته إثيوبيا وذلك بسبب زيادة كمية الأمطار التي سقطت على هضبة الحبشة وتجمعت في بحيرة “تانا”.
منبع النيل الأزرق
لكن التخوفات المصرية المشروعة سببها أن التوسع في إنشاء سدود وزيادة السعة التخزينية لما هو قائم حاليًا من سدود على مجرى النيل الأزرق في الأراضي الإثيوبية سيؤثر خلال سنوات قليلة في حصة مصر من النيل التي تبلغ 55 مليار متر مكعب سنويًا، ومن المتوقع انخفاضها بنحو 20 مليار متر مكعب على الأقل، في حال استمرت إثيوبيا في إنشاء 4 سدود أخرى على النيل الأزرق، وهو ما يمثل نقصًا بنحو 36% من موارد النيل المخصصة لمصر، وفقًا لتقديرات نشرتها هيئة الاستعلامات المصرية.
تآكل الطبقة الوسطى
يتجه المصريون لزيادة سكانية مرتفعة مع نقصان حاد في الموارد المائية وانخفاض في متوسط نصيب الفرد من المياه سنويًا، لكن الطامة الكبرى أن ذلك يتوافق مع صعوبات اقتصادية للمواطن المصري جعلته تحت ضغط دائم من ارتفاع نسبة التضخم وانخفاض القدرة الشرائية للجنيه بما يؤدي لتآكل متسارع في الطبقة الوسطى التي تعد مستودع الطاقات في أي مجتمع، حيث تتجه شريحة كبرى منها للتدحرج إلى ما تحت خط الفقر.
وأدى تدهور قيمة الجنيه وخفضه أمام الدولار إلى ارتفاع حاد في الأسعار، وعدم توافر النقد الأجنبي في البنوك، وانتشار تغيير العملة في السوق الموازية (السوداء) وبلوغ الفرق في السعر أكثر من 100% في المتوسط بسبب لجوء المستوردين لشراء الدولار خارج البنوك بأي ثمن، وكذلك تجار العملة الذين يجمعونها بشراهة تسببت في ارتفاع سعرها بشكل حاد.
وتحاول الحكومة المصرية اتخاذ إجراءات من أجل التخفيف عن المواطنين حيث تم رفع الحد الأدنى للأجور 6 مرات خلال 3 أعوام، حيث ارتفع الحد الأدنى من 1200 إلى 1400 جنيه عام 2017، ثم في عام 2019 تم زيادته إلى 2000 جنيه، وفي مارس 2021 تم رفعه إلى 2400، ثم إلى 2700 جنيه في النصف الأول من عام 2022، ثم إلى 3 آلاف جنيه في النصف الثاني من العام نفسه، وفي مارس 2023 إلى 3500 جنيه، وفي سبتمبر 2023 تمت زيادة الحد الأدنى للأجور إلى 4 آلاف جنيه، وفي فبراير الجاري تمت زيادة الحد الأدنى للأجور لنحو 6 آلاف جنيه.
التجميل لمن يفلح
الزيادة الأخيرة لا تعبّر عن اهتمام الدولة بالمواطنين بقدر ما تعبّر عن حجم الأزمة التي تعيشها مصر، حيث كان الحد الأدنى للأجور يتمتع بثبات نسبي لسنوات وليس رفعه لمرتين خلال العام، وكذلك القدرة الشرائية للجنيه ومتوسط دخل الفرد، وكلها أمور تشير إلى تراجع في الاقتصاد متواكبًا مع تراجع مماثل في السياسة، وهذا حديث آخر.
المؤكد أن تلازم الفقرين المائي والمالي للمواطن المصري سيؤدي لحالة من العوز لن تفلح في تجميلها قنوات النظام، وأبواقه الإعلامية التي ترى أي نقد في أي مجال هو من قبيل المؤامرات الكونية التي تقودها الجماعة المحظورة أو الإرهابية أو العملاء المأجورون، أو على أقل تقدير هو كلام غير مباح من حاقدين وحساد لا يرون الإنجازات.