الطريق نحو البيت الأبيض (6): المجتمع المأزوم
تواجه الولايات المتحدة، على المستوى الداخلي عددًا من التحديات الحقيقية، التي تفاقمت تداعياتها بدرجة كبيرة، وأصبحت تشكل بالفعل تهديدًا لبنية المجتمع الأمريكي، وسيكون لها حيز مهم في أولويات سياسات الرئيس القادم، بعد انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024، ولو على حساب قضايا السياسة الخارجية، وخاصة مع تنامي النزعة إلى العنف الداخلي، التي وقف خلفها في بعض الأحيان الرئيس السابق والمرشح لانتخابات 2024، دونالد ترامب مدفوعًا بمكونات اجتماعية قوية تدعم توجهاته.
صعود النزعة القومية وشعارات أمريكا أولًا
تجسّدت هذه النزعة بكلّ معانيها في فوز ترامب بانتخابات 2016، فإذا كانت هويّة الولايات المتحدة مرتبطةٌ بالنزعتيْن الليبرالية والقومية، فإنّ أيّ توتّر يحدث بينهما يؤدّي في أغلب الأحيان إلى انتصار النزعة القومية، وذلك لأنّها الأيديولوجية السياسية الأقوى في العالم الحديث، فانتصار الليبرالية مع نهاية الحرب الباردة وهيمنتها المُطلقة أدّيا إلى تقويض القومية الأمريكية في بعض جوانبها الأساسية، وأوجد هذا الانتصار نخبًا ليبراليةً عابرةً للقوميات، عالميةَ التفكير، بينها قواسم وهموم مشتركة مع نخب أخرى خارج حدود الدولة، الأمر الذّي أثار ردًّا قوميًّا عكسيًّا اعتَبر ذلك تهديدًا للدولة بل للأمّة ذاتها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعام من البلطجة الإسرائيلية.. وماذا بعد؟
ما بين الاقتصاد اللبناني والإسرائيلي!
إيران تودع الصبر الاستراتيجي!
وفي مقابل هذا الانتصار سعت التيارات القومية الأمريكية إلى حفظ وتعزيز تماسك الهويّة الوطنية والتضامن الاجتماعي، وأخذت تنمو بشكل تدريجي حتى تجسدّت ذروتها مع انتخاب الرئيس ترامب 2016، الذي يُعبّر انتخابه عن شعورِ عدد من الأمريكيين بالتهديد الذّي تُمثّله “النزعة الفردانية الراديكالية” والانفتاح الليبرالي “المُفرط” الذّي يُتيح مزيدًا من تدّفق المهاجرين إلى الأراضي الأمريكية، وتمتّعهم بحقوق على حساب حقوق ورفاهية المواطن الأمريكي، بما يُضعف حدود الدولة، ويُقوّض سيادتها، ويُضعف الرابطة بين الأمّة والدولة، بل يصل إلى تهديد الرؤية الوطنية المُوحَدّة للبلاد.
وإذا كانت هناك أسباب عديدة تُفسّر وصول ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2017، فإنّ أهم هذه الأسباب يرتبط بالشعارات القومية التي رفعها ونادى بها خلال مرحلة الانتخابات، واستمّر خلال سنوات حكمه يتبنّي أجندة وخطابات قومية مناهضة للعولمة الليبرالية وكلّ آلياتها ومؤسّساتها، كما أن تبنّيه لشعار “أمريكا أولًا” جعله مُحصّنًّا ضدّ هَجمات منافسيه الآخرين داخل الولايات المتحدة، فالجميع صار يخشى تحدّي المضامين القومية لهذا الشعار بل يجتهد ليُظهر نفسه أمام الأمريكيين على أنه سياسي يضع أمريكا فوق كلِّ اعتبار.
وهذه النزعة مرشحة لمزيد من التفاقم إذا حسم ترامب انتخابات 2024 لصالحه، في ظل سعيه للانتقام من كل من ينظر إليهم على أنهم تآمروا عليه في انتخابات 2020، وحالوا دون فوزه، وسعوا (من وجهة نظره) إلى تشويه صورته، وملاحقته سياسيًّا وإعلاميًّا وقضائيًّا.
صعود اليمين المسيحي الأمريكي ومنطلقاته
القومية والمخلص المنقذ
يمثل هذا الصعود التحدي الثاني، الشديد الأهمية خلال المرحلة القادمة، فقد ظل اليمين المسيحي الأمريكي مدة طويلة حركة اجتماعية تقوم أولويات اهتمامها على القضايا الاجتماعية والثقافية، مثل: الإجهاض، والمثلية الجنسية؛ ولم يكن يخوض حربًا ثقافية فقط، بل حربًا على قواعد ومؤسسات الديمقراطية الأمريكية. فالقومية المسيحية هي بالأساس حركة سياسية تسعى إلى الوصول إلى السلطة، وفرض رؤيتها على المجتمع الأمريكي بأكمله، واللاهوتيون مثل قادة الفكر القومي المسيحي اليوم، كانوا معادين بشدة لمبدأ المساواة والتعددية والتفكير النقدي. كما آمن مؤسسو الحركة بأن الولايات المتحدة أمة مسيحية يختارها الله. بمعنى أن تكون جمهورية مسيحية أرثوذكسية، لكنها انحرفت عن مهمتها وسقطت تحت سيطرة النخب الليبرالية.
لذلك فإن الحركة تسعى إلى استبدال مبادئ ومؤسسات الديمقراطية الأساسية بدولة ترتكز على نسخة معينة من المسيحية، مع تأكيد المتعصبين للحركة أن الولايات المتحدة يجب أن تتوافق مع نسختهم الأصولية من الإيمان لتزدهر مرة أخرى بعد انحرافها وسقوطها، وأن ترفض مبدأ الفصل بين الكنيسة والدولة باعتباره قمعًا علمانيًّا، مؤكدين أن الله يريد أن يسيطروا على كل جانب من جوانب الثقافة والمجتمع والحكومة.
فالقومية المسيحية ترفض النظام الليبرالي، وتطرح نفسها بديلًا له، وتدعم كل من يؤيد أفكارها أو يسير في الاتجاه الذي تريده، حتى إن بعض الكنائس والجماعات المسيحية تدعو المواطنين إلى التصويت وفقًا للقيم الإنجيلية بهدف التأثير في الناخبين.
وجنود الحركة، الملايين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح السياسيين المفضلين لدى الحركة، الذين يحضرون مسيراتها، هم المصدر الأساسي للقوة السياسية لها. وقد قام قادة الحركة بإعادة صياغة قضايا الحرب الثقافية من أجل الحصول على أصوات شريحة كبيرة من الجمهور الأمريكي والسيطرة عليها، انطلاقًا من إدراكهم أنه إذا كان بإمكانك جعل الناس يصوتون لمسألة واحدة أو قضيتين فقط، فيمكنك التحكم في تصويتهم؛ لذلك يستخدم القادة هذه القضايا للحفاظ على السلطة السياسية لأنفسهم وحلفائهم، لزيادة تدفق الأموال العامة والخاصة في اتجاههم، ولسنّ سياسات اقتصادية مواتية للممولين المفضلين لديهم.
ويتم تمويل هذه الحركة من قبل الجهات المانحة الغنية والمؤسسات الأسرية، من أمثال روبرت ميرسر وبيتسي ديفوس اللذين موَّلا دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. ومثل رالف درولينجر، الذي يمتلك نفوذًا في قيادة دراسة أسبوعية للكتاب المقدس في البيت الأبيض بحضور كبار المسؤولين.
وقد حققت القومية المسيحية على مدار الأعوام الماضية، وخاصة في ظل إدارة ترامب، نجاحات كبيرة، وامتد تأثيرها إلى العديد من جوانب الحياة الأمريكية، واستمرار هذا التمدد من شأنه أن يُهدد الديمقراطية والمبادئ الليبرالية الأساسية التي تأسست عليها الولايات المتحدة، ويتزامن ذلك مع الأدوار المتصاعدة التي يؤديها المنتمون للحركة، سواء كانوا شركات أو أفرادًا أو حركات دينية، في التأثير في خيارات المواطنين الانتخابية.
وهذا التمدد الذي ظهر خطره في ممارسات أنصار ترامب بداية من السادس من يناير 2021، سيضع المزيد من الأعباء والتحديات أمام إدارة الرئيس القادم، لبذل المزيد من الوقت والجهد والتمويل لمواجهة مثل هذه التحديات، واعتبارها من أولويات إدارته، نظرًا لكونها لا تشكل تهديدًا لإدارته أو حزبه فقط، بل للدولة والمجتمع والنموذج الأمريكي بكل مكوناته.
ولارتباط هذا الصعود في جانب منه بشخصية ترامب وإدارته الأولى، فإن عودة ترامب إلى الحكم ستُعزز هذا الصعود، وتزيد تأزيم الأوضاع المجتمعية الداخلية الأمريكية.
العنصرية والتناقضات الطبقية في مجتمع
شعاراته الكبرى الليبرالية والديمقراطية
تُشكل العنصرية ضد الأمريكيين السود جزءًا من بنية النظام الاجتماعي في أمريكا، ولا يزال المجتمع الأمريكي يشهد العديد من المؤشرات على الثقافة العنصرية، فعلى الرغم من أن الأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي يُشكلون أقل من 14% من السكان حسب تعداد السكان الرسمي الذي تم إجراؤه عام 2020، فإنهم كانوا يُمثلون أكثر من 23% من بين كل 1000 حالة إطلاق نار أدت إلى القتل بأيدي الشرطة، كما أن معدل اعتقال الأمريكيين السود بتهمة تعاطي المخدرات أعلى بكثير من معدل اعتقال الأمريكيين البيض، رغم أن الاستبانات تظهر تقارب نسب تعاطي المخدرات بين المواطنين البيض والسود.
وكذلك فإن الأمريكيين السود الذين يُسجنون بمعدل خمسة أضعاف الأمريكيين البيض، وضعف معدل الأمريكيين ذوي الأصل الإسباني تقريبًا، ففي عام 2018 شكل الأمريكيون ذوو الأصل الإفريقي حوالي 13% من سكان الولايات المتحدة، لكنهم كانوا يمثلون نحو ثلث عدد السجناء في البلاد، في حين شكل الأمريكيون البيض حوالي 30% من نزلاء السجون، رغم أنهم يمثلون أكثر من 60% من إجمالي عدد السكان.
كما أن هناك مؤسسات كاملة لا تسمح بصعود الملونين في سلمها الوظيفي، وهي توجهات معروفة وإن كانت غير مكتوبة؛ خاصة مع حرص هذه المؤسسات على تبني خطاب يستنكر العنصرية، وهناك مؤسسات أمريكية تفتح المجال أمام السود لكنها تظل تنطوي على توجهات عنصرية.
ولعل تورط مؤسسات بعينها في تكريس العنصرية الموجهة ضد الأمريكيين ذوي الأصل الإفريقي يفسّر اعتداء المتظاهرين على مؤسسات دون غيرها، ويبيّن أنه يرتبط بالدور الذي تقوم به هذه المؤسسات في تكريس العنصرية.
أما في الإطار الأوسع، فإن الاحتجاجات التي تشهدها بعض الولايات الجنوبية بين الحين والآخر، يتم النظر إليها باعتبارها احتجاجًا ضد النيوليبرالية الأمريكية، مع تراكم اللامساواة والتمييز والفقر والتهميش لدى أمريكيين كثيرين.
يرتبط بذلك أن العنصرية في الولايات المتحدة لها بعد طبقي، إلا أن الطبقية في الولايات المتحدة لا تُؤثر سلبًا في السود فقط، وإنما تؤثر أيضًا بشكل سلبي في أقليات أخرى، وفي شرائح فقيرة وأقل دخلًا من البيض.
ويُمكن تلمّس البعد الطبقي للاحتجاجات، في عمليات التخريب التي طالت شركات كبرى، أصبحت رمزًا للسياسات الرأسمالية القاسية، التي تعيد بشكل مستمر إنتاج التفاوت الطبقي الكبير بين أقلية بيضاء تملك كل شيء، وبين جمهور واسع من البيض والسود والملونين يعاني العجز عن توفير احتياجاته، ويعيش خوفًا مستمرًّا من المستقبل.
ولكن هناك من يرى أن الاحتجاجات في أمريكا تتجاوز رفض العنصرية والطبقية، وأنها أقرب إلى التعبير عن ردّ على اختناق أوسع، عنصري وسياسي وطبقي، وأن الاحتجاجات ليست فقط ضد الشرطة وممارساتها، وإنما أيضًا ضد الخلل المتزايد في النظام الذي تحميه، وشهدت معظمها أعمال عنف، ومواجهات قوية بين المواطنين والشرطة.
وهذه الاحتجاجات تعني كذلك أن المجموعات الغاضبة لم تعد تثق في القوى السياسية القائمة يمينية كانت أو يسارية؛ لذلك اختارت فتح قنوات جديدة للتعبير عن مواقفها، بعيدًا عن القنوات التقليدية القائمة من أحزاب وقوى سياسية موجودة وقائمة؛ ولذلك تظهر هذه الاحتجاجات بدون لغة واضحة أو قيادة محددة، أو تنظيمات تُدير المشهد وتتحكم في مسار الحركة، فهي تعبير عن قطاعات اجتماعية ليس لها تمثيل في المجال السياسي، ومن ثم فهي خارج المجال السياسي، وترفض اللجوء إلى أي من مكوناته، أو حتى استخدام اللغة السياسية السائدة فيه، وتبحث عن عقد اجتماعي جديد، يضمن حقوقها، ويحفظ مصالحها.
ومع تنامي هذه التحديات، وتعدد المؤشرات التي تعبر عنها، وكذلك تعدد الأدوات التي تظهر من خلالها، فكرًا وممارسة، فإنه يمكن القول إن الطريق نحو البيت الأبيض يزداد خطورة على مرتاديه والمتنافسين على التحكم فيه، إذا لم تكن لديهم تصورات واضحة ورؤى استراتيجية لاحتواء وإدارة هذه التحديات.