غزة وصدمة الانبهار بالنُّبْل البشري

حقيقة الأمر أن حاجة ضمير العالم إلى غزة كانت أكثر من حاجة غزة إلى عدل العالم وخبزه.
فمع انسحاق غالبية شعوب العالم تحت وطأة المال والقوة والسلطة والمعرفة، وتغلغل الحياة المادية وسيطرتها على جميع مناحي الحياة، ومع سير الإنسان المعاصر في طوابير ظاهرها الحداثة وجوهرها العبودية، فجأة وفي يوم 7 أكتوبر الماضي.. تفجرت الأحداث، وانتقلت الأخبار، وانتشرت القصص الخبرية المرئية، وانبهر أحرار العالم أمام قصص ومشاهد المقاومة والصمود والكفاح الأسطوري على المستوى الإنساني والعسكري، أما الغريب فهو أن المواقف النبيلة قد انتقلت من المقاوم داخل غزة إلى المتضامن خارجها.
مرفوع الهامة أمشي
نحاول التعبير على قدر ما نعي وعلى قدر ما نستطيع التعبير، إلا أن بعض المواقف والأحداث التي تصدر من بعض الشخصيات عظيمة وصادمة ومحلّقة في النبل إلى الدرجة التي نقف أمامها مبهورين عاجزين عن التعبير، وكأننا نخشى أن تنال كلماتنا من قدسية المشهد المهيب، أو ألا تكون عباراتنا بقدر عظمة وشرف هؤلاء.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنهاية الإخوان!!
الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ المنشاوي في سوهاج
بسبب معدلات الإنجاب.. تركيا تدق ناقوس الخطر
ومن تلك المواقف العظيمة التي فجرها صمود شعب غزة موقف التضامن القوي والاحتجاج الصارخ والتنديد الرهيب من قبل آرون بوشنيل الشاب الأمريكي النبيل صاحب الـ25 عامًا، الذي تقدم تجاه السفارة الإسرائيلية في العاصمة واشنطن بخطى ثابتة أمام الكاميرا وعبر بث مباشر على منصات التواصل الاجتماعي ولسان حاله يقول كما قال الشاعر الفلسطيني سميح القاسم:
منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي
وأنا أمشي وأنا أمشي
أو ربما كان لسان حاله كما قال الشاعر السوداني إدريس جماع:
سأمشي رافعًا رأسي
بأرض النبل والطهر
أما الفتى نفسه فقد قال:
“اسمي آرون بوشنيل، وأنا عضو نشط في القوات الجوية الأمريكية ولن أكون متواطئًا بعد الآن في الإبادة الجماعية، أنا على وشك المشاركة في عمل احتجاجي متطرف، ولكن مقارنة بما شهده الناس في فلسطين على أيدي الإسرائيليين، فهو ليس متطرفًا على الإطلاق”.
يتقدم الشاب نحو جدار السفارة في ثبات، ويسكب بلا تردد على نفسه مادة سريعة الاشتعال، ثم يشعل في جسده النار وهو يصرخ:
فلسطين حرة
وأمام قسوة المشهد، وقوة ووضوح الرسالة، تعجز الكلمات أمام الضمير الحي للشاب الأمريكي غير المسلم، الذي ضحى بحياته نصرةً لقضية عادلة لذا فقد استحق تقدير معظم أحرار العالم، حتى وإن اختلفنا حول استخدام الانتحار وسيلة للتنديد أو الرفض أو الاحتجاج، وهو ما أكدت عليه تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، ولسان حالنا كما قال الشاعر الأندلسي ابن شهيد:
أنوح على نفسي وأندب نبلها
إذا أنا في الضراء أزمعت قتلها
رضيت قضاء الله في كل حالة
عليّ وأحكامًا تيقنت عدلها
أتدري ما الفداء؟
ومن المواقف التي تقف أمام فداء أبطالها عاجزًا عن التعبير، مشهد الطبيبة الفلسطينية البطلة، فمع الأجواء الليلية العصيبة، كانت زخات رصاص القناصة الإسرائيلية تتواصل كالمطر، والجميع أمام مجمع ناصر الطبي بخان يونس يخشى عبور الشارع لإحضار المصاب من الجهة المقابلة، إلا أن أحد المراسلين قد التقط مشهدًا باهرًا؛ فبمجرد معرفتها الأمر خلعت الطبيبة أميرة العسولي معطفها بشكل عفوي وتلقائي، وبكل شجاعة لم تبال بالرصاص المنهمر وعبرت الشارع إلى الجهة المقابلة، وبعد أن تأكدت أن الجريح على قيد الحياة، أغرت بطولتها الرجال للعبور خلفها، ثم عادوا جميعًا يحملون الجريح سالمين، وكأن لسان حالها في النجدة والبطولة كما قال أبو فراس الحمداني:
ونحن أناس لا توسط عندنا
لنا الصدر دون العالمين أو القبر
تهون علينا في المعالي نفوسنا
ومن خطب الحسناء لم يغلها المهر
من أنتم لولا النبلاء؟
قد يمر المشهد أمامك صغيرًا خاطفًا ولكنه قد يأبى أن يصبح عابرًا، ففي أقل من عدة ثوان ودون قصد ترى المجاهد الفلسطيني الزاهد، وهو الذي عرف بالمجاهد الحافي، يخرج منفردًا من فتحة نفق، بملابسه البسيطة وبدون حذاء، يمشي ثابتًا حاملًا على كتفه سلاحه المحلي الصنع ليواجه دبابة الميركافا فيدمرها بمن فيها ثم يعود مكبرًا من حيث جاء.
ومن تلك المشاهد المحفورة في أذهان الشعوب، ذلك المشهد الذي أذاعته وسائل الإعلام الإسرائيلية، لتوثق بنفسها دون أن تدري وقائع استشهاد أحد مقاتلي المقاومة، فقد جاءت مشيئة الله أن يعرف الجميع كيف يرحل المجاهدون في سبيل الله، ولترتقي روح الشاب الذي عرف بالمجاهد الساجد.
ومن تلك المشاهد أيضًا ما حدث في ساحة استقبال أحد المستشفيات، حيث التقط أحدهم مشهد الممرض الذي اعتلى نقالة المصابين محاولًا إنعاش قلب طفلة من ضحايا ومصابي القصف الإسرائيلي، لم ينتظر الممرض وصول المصابة إلى مستقرها فقفز بإخلاص نادر على نقالة المرضى أثناء نقل المصابة محاولًا إنقاذها، فلم يؤثر فيه الاعتياد ولم يمسه التراخي رغم معاصرته بحكم عمله لآلاف القتلى وعشرات الآلاف من المصابين. المؤلم أن ذلك الممرض المتفاني محمد قشقش قد استشهد مع عائلته أثناء كتابة المقال بعد أن قصف الجيش الإسرائيلي منزله في قطاع غزة.