تحول تاريخي في دعم الشعب الأمريكي لإسرائيل
بعد ساعات من إعلان ديفيد بن غوريون، الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية، عن قيام الكيان الإسرائيلي كدولة مستقلة في 14 مايو/أيار 1948، أصدر الرئيس الأمريكي، هاري ترومان بيان اعتراف بالدولة الوليدة هو الأول لرئيس دولة على مستوى العالم وأكبر دعم “سياسي” يمكن أن يُقدم لكيان عصابي يحاول إنشاء دولة على أنقاض دولة أخرى.
وبعد حرب سنة 1967، فازت إسرائيل بمكانة “الشريك الموثوق” للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، حيث حققت بمفردها انتصارًا عسكريًا ساحقًا وماحقًا على أربع دول كبيرة وعريقة، وفي ستة أيام فقط، يقولون إنها ست ساعات، احتلت مساحات واسعة وأقاليم كاملة من أراضيها، في الوقت الذي يحقق فيه الجيش الأمريكي هزائم وانتكاسات في فيتنام. منذ ذلك التاريخ “تبنت” الولايات المتحدة إسرائيل، وأغدقت عليها بالدعم العسكري والاقتصادي والتقني، وأمدتها بكل ما تحتاجه من الإبرة إلى الصاروخ.
وبعد الأسبوع الأول من العدوان الأخير على غزة، صوت مجلس الشيوخ الأمريكي لصالح قرار قدمه الرئيس جو بايدن يقضي بتخصيص 14.1 مليار دولار كمساعدات عسكرية عاجلة لإسرائيل. وقدمت الولايات المتحدة في هذه الحرب 599 صفقة مبيعات عسكرية لإسرائيل بقيمة 23.8 مليار دولار، تشمل الطائرات المقاتلة من طراز إف 35، وأطنانًا من القنابل الذكية والغبية، وفق بيانات وزارة الدفاع الأمريكي.
وفي الأسبوع الثاني للعدوان، قام بايدن بزيارة إسرائيل على متن طائرة حربية. وهي زيارة ذات دلالة سياسية، فهي أول زيارة لرئيس أمريكي لإسرائيل في وقت الحرب. وأوصل بايدن رسالة غير دبلوماسية قال فيها “أنا صهيوني، وأردت أن أكون هنا لكي يعرف شعب إسرائيل وشعوب العالم أن الولايات المتحدة تقف إلى جانب إسرائيل، وأن الولايات المتحدة ستتأكد من أن إسرائيل لديها ما تحتاجه للدفاع عن نفسها، وإنه لو لم تكن هناك إسرائيل لعملنا على إقامتها”.
تحول في شعبية إسرائيل داخل الولايات المتحدة
رغم المجازر التاريخية بحق الفلسطينين، حظيت إسرائيل بشعبية كبيرة داخل المجتمع الأمريكي منذ الستينيات، لا تقل عن الدعم السياسي والعسكري، بل رافعة له ومبرر لاستمراره، متأثرة بماكينة دعاية اللوبي اليهودي التي روجت لإسرائيل باعتبارها واحة الديمقراطية الزاهرة في صحراء الديكتاتورية العربية القاحلة، وحامية المصالح الأمريكية في المنطقة.
ذلك أن استطلاعًا أجرته مؤسسة “غالوب” الدولية المتخصصة في استطلاعات الرأي العام في الفترة ما بين 3-18 فبراير/شباط سنة 2021، أظهر أن “شعبية” إسرائيل بين مواطني الولايات المتحدة الأمريكية بلغت 75%، وهي ثاني أعلى نسبة بعد نسبة 79% المسجلة في عام 1991 بعد حرب الخليج.
ولكن بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة في 7 أكتوبر، حدث تغير وتحول في كيمياء التعاطف الشعبي الأمريكي تجاه الدولة الصهيونية. ذلك أن جامعة هارفارد، وهي أرقى الجامعات الأمريكية والأولى في التصنيف العالمي للجامعات وجامعة أبناء النخبة هناك، شهدت حدثًا غير متوقع في اليوم الأول للحرب. إذ صدر بيان وقع عليه أكثر من 30 منظمة طلابية في الجامعة يحمل إسرائيل المسؤولية. وجاء في البيان أن “إسرائيل تتحمل بشكل كامل مسؤولية كل أعمال العنف التي تندلع في فلسطين”.
وكشف موقع “ذا ميديا” الأمريكي المنحاز لإسرائيل أن ما حدث في جامعة هارفارد الرائدة بين الجامعات الأمريكية قد انتقلت عدواه إلى زملائهم الطلاب في جامعات بنسلفانيا، وكولومبيا، ونيويورك، وغيرها الكثير من الجامعات، حيث انخرط الطلاب خلال الساعات التي تلت العدوان في كتابة رسائل تلقي باللوم على “الضحايا” الإسرائيليين.
وفي شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بعد أسابيع من “هجوم” حماس في 7 أكتوبر، أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة “غالوب” أن نصف الأمريكيين، 50% فقط، يؤيدون عدوان إسرائيل على غزة، وأن هذه النسبة تزيد بين المواطنين الجمهوريين إلى 71%، في مقابل 36% بين الديمقراطيين.
في هذا التوقيت، زادات كثافة المظاهرات المؤيدة لفلسطين في معظم الولايات المتحدة. وفي العاصمة واشنطن، انطلقت أكبر مظاهرة مؤيدة للشعب الفلسطيني في تاريخ الولايات المتحدة وشارك فيها ما لا يقل عن 300 ألف شخص، وطالب المتظاهرون بوقف الحرب على غزة، ونددوا بالسياسات الداعمة لإسرائيل وبدور الرئيس جو بايدن الذي وصفوه بأنه “شريك في الإبادة”.
وسار المتظاهرون في شوارع واشنطن ملوحين بالأعلام الفلسطينية، ورددوا هتافات من بينها “بايدن، لا يمكنك الاختباء، لقد اشتركت في الإبادة”، وتجمعوا عند ساحة الحرية على بعد خطوات من البيت الأبيض، وأعربوا عن رفضهم تمويل العدوان على غزة بأموال الضرائب وعدم التصويت لبايدن في الانتخابات المقبلة. واتهموا الحزب الديمقراطي بأنه ليبرالي بوجهين، وهو أخطر ما يواجه بايدن الذي يطمع في الفوز بولاية رئاسية جديدة.
وفي تحول جديد للشعبية الأمريكية تجاه إسرائيل، أظهر استطلاع ثالث للرأي أجرته مؤسسة “غالوب” نفسها قبل أيام قليلة انخفاضًا في تأييد الرأي العام الأمريكي للعمليات العسكرية للجيش الإسرائيلي في قطاع غزة. وبحسب الاستطلاع، انخفضت نسبة المؤيدين للعدوان الإسرائيلي على غزة إلى 36%، وأن 55% من الأمريكيين باتوا يعارضون العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة.
من التحولات أيضا، أن نسبة التأييد بين الجمهوريين انخفضت من 71% في استطلاع نوفمبر إلى 64% في استطلاع مارس/آذار. وسجل التأييد بين الديمقراطيين انخفاضًا أكثر حدة، حيث أظهر 18% فقط تأييدهم للعدوان الإسرائيل، وهي نصف النسبة التي كانت موجودة في استطلاع شهر نوفمبر. ومن بين الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم مستقلين، انخفضت نسبة التأييد من 47% في نوفمبر إلى 29% مارس. كما أن عدد الأمريكيين الذين يؤيدون تقديم المساعدات الإنسانية لسكان غزة أصبح أكثر من المؤيدين للعدوان الإسرائيل.
تداعيات تراجع شعبية إسرائيل
كان نتيجة التحول التاريخي في شعبية إسرائيل داخل الدولة الأم بالتبني، أن الرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي يفاخر باعتناق الصهيونية، انتقد حكومة إسرائيل علنًا في حملة انتخابية له في واشنطن، بعد أيام من استطلاع غالوب، وقال إن “إسرائيل بدأت تفقد دعم المجتمع الدولي نتيجة قصفها العشوائي لقطاع غزة الذي أودى بحياة آلاف المدنيين الفلسطينيين”.
وألمح إلى أن علاقته مع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو متقلبة، وطالبه بتغيير “حكومته المتشددة”. وهو “انتقاد” غير متوقع من الإدارة الأمريكية، وهو وإن بدا شكليًا، لكن تفوح منه نكهة “إدانة” غير متوقعة لإسرائيل في وقت هي أحوج ما تكون فيه للدعم.
بعد انتقاد بايدن، تجرأت دولة جنوب إفريقيا وأقامت دعوى ضد إسرائيل لدى محكمة العدل الدولية، بتهمة ارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة وتطالب بوقف الحرب. صحيح أن المحكمة لم تستجب لطلب وقف الحرب واكتفت باصدار تدابير مؤقتة لمنع تزايد الضرر، لكن نجاح دولة من دول العالم الثالث ومن قارة إفريقيا، في جر إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية شكل صدمة لحكومة إسرائيل ولأمها أمريكا.
أكبر تداعيات التحول الشعبي الأمريكي ضد العدوان الإسرائيلي على غزة كان “امتناع” الولايات المتحدة، تحت وقع الضغط الشعبي، عن استخدام حق “الفيتو” ضد قرار قدمه الأعضاء غير الدائمين في مجلس الأمن لوقف فوري لإطلاق النار في قطاع غزة في رمضان، ونجاح مجلس الأمن في استصدار القرار رقم 1728 وذلك بعد إفشال الولايات المتحدة دستة محاولات سابقة لنفس الهدف.
وبغض النظر عن عدم تنفيذ القرار، كعشرات القرارات التي صدرت عن المجلس ضد إسرائيل ولم تنفذ بفضل الدعم السياسي الأمريكي أيضًا، لكنه تحول كبير ويحمل في طياته موقفًا سياسيًا أمريكيًا “غير مألوف” ولا متوقع ضد المدللة إسرائيل. ما يظهر خطورة التحول الأمريكي في إسرائيل، إلغاء نتنياهو زيارة وفد التفاوض إلى واشنطن لبحث الهجوم المزمع على رفح جنوبي قطاع غزة، وقول مكتبه في بيان “لم تستخدم الولايات المتحدة حق النقض اليوم ضد النص الجديد الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار دون شرط إطلاق سراح المختطفين، وهذا تراجع واضح عن الموقف الأمريكي الثابت في مجلس الأمن منذ بداية الحرب”.
حاول مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض جون كيربي التخفيف من تداعيات التحول الأمريكي ومغبة القرار بقوله: إن امتناعنا عن التصويت على قرار مجلس الأمن لا يمثل “تحولًا” في سياستنا. ورغم تبريرات كيربي لكن التحول حدث، والتداعيات داخل إسرائيل وخارجها قد وقعت.
وقد عبر وزير الأمن القومي الإسرائيلي، إيتمار بن غفير بوضوح عن مخاطر التحول الأمريكي تجاه إسرائيل بقوله، إن عدم استخدام الرئيس الأمريكي جو بايدن للفيتو “يثبت أنه لا يضع في مقدمة أولوياته انتصار إسرائيل مقابل اعتبارات سياسية”. وكذلك عبر وزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالانت عن خطورة الموقف الأمريكي الجديد بقوله إن القرار “قد يقرب حربًا على الجبهة الشمالية”. وهو أكبر ما تخشاه إسرائيل وتحاول أمريكا منعه في هذا التوقيت.
صحيح، قد لا يفضي التحول الشعبي الأمريكي “التاريخي” ضد إسرائيل لوقف الحرب في هذا التوقيت، ولكن تراكمات هذا التحول حققت ضغوطًا على الإدارة الأمريكية حتى تبنت مواقف غير معتادة وغير مرضية لإسرائيل، قد تكون سببًا في منع نتنياهو من اجتياح مدينة رفح، المكتظة بنصف سكان قطاع غزة النازحين من الشمال، حتى هذا التوقيت.
ومؤخرًا، صرح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن بأن أي هجوم على مدينة رفح جنوبي غزة سيهدد بفرض “عزلة أكبر” على إسرائيل “والإضرار بأمنها” على المدى الطويل. ومما لا شك فيه أن الإضرار بأمن إسرائيل يتحقق لا محالة بمراجعة الإدارة الأمريكية دعمها الأعمى لإسرائيل ومكانتها “كشريك موثوق” في المنطقة العربية.