“أتقياء إسرائيل” يرفعون شعار “أنا أُحرض وأنت تقاتل”
ليس جديدًا أن يتقاعس بنو إسرائيل عن الانخراط في القتال، وتحمل تبعات ما يؤمنوا به، سواء كان حقًا أو باطلًا، وليس جديدًا أن يختاروا موقف التقاعس والهروب من الفعل والاكتفاء بالتحريض أو التشجيع فقط، إذ فعلوها قبل آلاف السنين مع نبي الله موسى بن عمران، إذ جاء ردهم قاطعًا عندما أمرهم أن يدخلوا الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم “قَالُوا يَا موسى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا ۖ فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ”.
ووفقًا للنص القرآني فإن الخوف من مواجهة سكان الأرض المقدسة في ذلك الوقت، وضعف الهمة كان الدافع الرئيسي الذي جعل بني إسرائيل يتقاعسون عن تنفيذ أمر موسى، وأن يغلب عليهم فتور الهمة بعد أن اشترطوا أن يخرج من وصفوهم بـ “الجبارين” من الأرض المقدسة لكي يدخلوا إليها.
تراث القعود
ويبدو أن التراث اليهودي في تفضيل القعود عن الحراك وفي تغليب التلاسن بالكلم على التغيير باليد عاد ليطل برأسه من نوافذ الكيان الصهيوني الذي جمع شتات يهود العالم على أرض فلسطين بعد أن أنهى الاحتلال البريطاني انتدابه عليها لتقع عام 1948 تحت براثن احتلال جديد مدججٍ بادعاءات الحق التاريخي التي لن تجد له دليلًا معتبرًا من أثرٍ أو حجرٍ في عموم الأرض المقدسة دون أن يخلو من تلفيق أو تزييف.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالشرق الأوسط يستعد على عجل للحقبة الترامبية
إقامة الشرع في سوريا ونموذج أفغانستان
لماذا وافق نتنياهو على الهدنة الآن؟
وعلى صراط اليهود القدامى -غير المستقيم- تمضي طائفة المتدينين المعروفة بـ”الحريديم” التي تُعتبر مستودع التطرف والأصولية اليهودية في الدولة العبرية حيث يعتقد أعضائها أنهم حراس التوراة والتقاليد والتعاليم الدينية ومسؤولون عن تطبيق الشريعة اليهودية، ويعتبرون أنفسهم طائفة مميزة لا ينبغي لها أن تنخرط في الجندية ومسئولياتها وأعبائها وقيودها والأهم تضحياتها من احتمال فقد الحياة أصلًا أو إكمالها على أقل تقدير بإعاقات تورث العجز أو إصابات مزمنة تودي للوهن.
إعفاء “الأتقياء”
وبعد نشأة الكيان الصهيوني بقليل وباتفاق مع زعماء “طائفة الحريديم” ومعناها في اللغة العبرية “الأتقياء” منح “ديفيد بن جوريون” رئيس أول حكومة نحو أربعمائة من طلاب المدارس الدينية إعفاء من أداء الخدمة العسكرية الإلزامية ليتفرغوا لدراسة الدين اليهودي وتعاليم التوراة.
واستند “بن غوريون” على قانون الخدمة العسكرية الصادر سنة 1948، والذي يمنح وزير الدفاع الحق في إعفاء أي شخص من الخدمة العسكرية بسبب التعليم أو الاستيطان أو الاقتصاد الوطني أو لظروف عائلية.
صراع قضائي
وبينما يلتزم الرجال بأداء الخدمة لمدة 3 سنوات، والنساء سنتان فقد استمر تجديد الإعفاء لطلاب المدارس الدينية حتى تم إقرار قانون سنة 2015 يعفي الطلاب الأرثوذكس من الانخراط في صفوف الجيش.
وقد كان هذا التكريس القانوني للإعفاء دافعًا لأن يخوض المعارضون صراعًا قضائيًا لإلغاء هذا الإعفاء حيث قررت محكمة العدل العليا في عام 2017 أن الإعفاء تمييز غير دستوري يخل بمبدأ المساواة بين المواطنين وأصدرت بأغلبية ثمانية قضاة مقابل واحد، حكمًا بإلغاء القانون الذي كان مطلبًا رئيسيًا للأحزاب الدينية، وكان شرطًا لدخولها في ائتلاف ضمن حكومة “بنيامين نتنياهو” سنة 2015.
وقد أمهلت المحكمة العليا الحكومة عامًا واحدًا لإعداد تشريع جديد محل القانون الملغي، ومن وقتها يتمتع الحريديم بالإعفاء بموجب قرارات يعتمدها الكنيست في ظل حكومات يمينية متعاقبة كانت تضم الأحزاب الدينية لبلوغ الأغلبية اللازمة للحصول على ثقة الكنيست.
انتباه مع النمو
وبرغم أن إعفاء طلاب المدارس الدينية امتياز قديم إلا أنه بات لافتًا للأنظار في المجتمع الإسرائيلي مع تزايد عدد المتمتعين بهذا الإعفاء كنتيجة طبيعية للنمو السكاني لطائفة الحريديم التي أصبحت تشكل نحو 13.3٪ من سكان إسرائيل بعدد يزيد عن 1.2 مليون نسمة وفقا لإحصاءات عام 2023. ووفقًا للمعهد الإسرائيلي الديمقراطي، فإنه بحلول عام 2050 سيكون ما يقرب من ربع سكان إسرائيل من اليهود الحريديم.
وتبلغ نسبة الشباب تحت سن العشرين حوالي 60٪ من المنتمين للطائفة، وهي ضعف نسبة الشباب في عموم المجتمع الإسرائيلي، وذلك بسبب انخفاض سن الزواج والحرص عليه مع ارتفاع معدلات الخصوبة بين الحريديم وارتفاع مستوى المعيشة بفعل الهبات والمنح الحكومية.
وتتمتع الأحزاب الدينية بثبات نسبي في معدلات التصويت بين باقي الأحزاب في انتخابات الكنيست الإسرائيلي لكونها تعتمد على قاعدتها الدينية دون قدرة على اجتذاب أصوات مؤثرة من خارج دائرتها، عكس الأحزاب الأخرى التي تتفاوت نسبة التأييد لها بين الجمهور صعودًا وهبوطًا تبعَا لمواقفها وتحالفاتها السياسية والانتخابية.
تأثير المقاومة الفلسطينية
وقد تسببت المقاومة الفلسطينية بهجومها المفاجئ على السياج الحدودي ومستوطنات غلاف غزة صباح السابع من أكتوبر الماضي في تجدد الجدل حول استمرار إعفاء الحريديم من أداء الخدمة العسكرية خاصة مع وضوح النقص في أعداد الجنود الإسرائيليين وتزايد القتلى والمصابين في العدوان على غزة مع الحاجة لاستدعاء أعداد أكبر من جنود الاحتياط.
ومع استمرار العمليات العسكرية التي يوجهها جيش الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة جنوبًا ولبنان وسوريا شمالًا، لنحو 6 أشهر فإن الحاجة باتت أكبر في الرأي العام الإسرائيلي للشعور بتحمل جميع مكونات المجتمع للمسئولية في زمن الحرب، وفي إلغاء أي استثناء يميز طائفة أو جماعة.
وتتلقى نحو 1500 مدرسة دينية حاليًا تمويلًا حكوميًا، وفي سنة 2023 حصل نحو 66 ألف من طلاب المدارس الدينية على إعفاء من الخدمة العسكرية وفقًا للجيش الإسرائيلي.
تجميد الأموال
وفي خطوة غير مسبوقة أصدرت المحكمة العليا الإسرائيلية، قبل أيام أمرًا بتجميد أموال المدارس الدينية اليهودية ما يوفر إطارًا قانونياً لوقف إعفاء طلاب الحريديم من الانضمام للخدمة العسكرية، وهو الإعفاء الذي انتهى آخر مارس الماضي لكن “نتنياهو” طلب من المحكمة مهلة شهر آخر للتوصل لتوافق حيث تعتزم الحكومة طرح قانون جديد للتجنيد يسمح بإعفاء النسبة الأكبر من طلاب الحريديم من الالتحاق بالخدمة العسكرية وسط انقسام بين أعضاء الحكومة حول القانون حيث تعارض الأحزاب الدينية المشاركة في الحكومة إلغاء إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية، بينما يطالب وزراء مؤثرون في الحكومة بوضع حد لهذا الإعفاء، في الوقت الذي يعاني فيه الجيش من نقص في الموارد البشرية بفعل الحرب الدائرة منذ السابع من أكتوبر الماضي.
هجرة جماعية
وقد اندلعت حرب كلامية بعد أن هدد “يتسحاق يوسف” كبير الحاخامات السفارديم أن اليهود الأرثوذكس المتشددين سيغادرون إسرائيل بشكل جماعي إذا ألغت الحكومة إعفاءهم من التجنيد الإلزامي وهاجم المعارضين للإعفاء ووصفهم بـ”العلمانيين الذين لا يفهمون أنه بدون التوراة والمدارس الدينية، لم يكن الجيش الإسرائيلي لينجح”.
ورد زعيم المعارضة الإسرائيلية “يائير لابيد” على تصريحات “يوسف” الصادمة ساخرًا: “إنَّ الحريديم سيواجهون صعوبة في التكيف مع الحياة خارج إسرائيل” كما اعتبر أن تصريحات يوسف “عار وإهانة لجنود الجيش الذين يضحون بحياتهم من أجل الدفاع عن إسرائيل”، ووصف التمسك بالإعفاء بأنه “تهرب من المسؤولية وتمييز بين الدم والدم، بينما الجيش الإسرائيلي يعاني من نقص في الجنود بعد ستة أشهر من حرب مؤلمة”.
واعتبر الوزير “بيني غانتس” عضو مجلس الحرب كلمات الحاخام يوسف “إهانة أخلاقية للدولة والمجتمع الإسرائيلي”، كما عبَّر وزير الدفاع الإسرائيلي “يوآف غالانت” عن معارضته لمشروع القانون الذي يعمق الانقسام بين الفرقاء في الحكومة الإسرائيلية. وقال “غالانت” إنه “لتحقيق أهداف الحرب، وللتعامل مع التهديدات القادمة من غزة، ومن لبنان، ومن الضفة الغربية.. نحتاج إلى الوحدة والشراكة في القرارات المتعلقة بمستقبلنا”.
ووصف “آري درعي” رئيس حزب “شاس” الديني قرار المحكمة العليا بأنه “إساءة غير مسبوقة لطلاب التوراة في الدولة اليهودية” واتهم المحكمة بمعاداة المتدينين “من بين كل الأيام التي يحتاج فيها شعب إسرائيل رحمة الرب في الشمال والجنوب، تقود المحكمة العليا نهجا عدوانيا ضد طلاب التوراة”.
الإسرائيليون يعارضون
وكشف مكتب المدعي العام للدولة، أن هناك حوالي 63 ألف طالب في المدارس الدينية كان من المقرر خضوعهم للتجنيد الإجباري قانونيا في الأول من أبريل قبل أن توافق المحكمة على طلب نتنياهو مد المهلة لشهر آخر.
ويعارض أكثر من ثلثي الإسرائيليين إعفاء الحريديم من الخدمة العسكرية وفقا لاستطلاع للرأي أجراه معهد دراسات الأمن القومي (INSS) في النصف الثاني من العام الماضي.
أعباء اقتصادية
ويلقى إعفاء طلاب المدارس الدينية بظلاله على الاقتصاد الإسرائيلي أيضا إذ لا يحد الإعفاء من قدرة الجيش على حشد جنود الاحتياط فقط، وإنما أيضا على قوة العمل في المجتمع الإسرائيلي حيث يتفرغ طلاب المدارس الدينية لسنوات طويلة لدراسة الدين اليهودي دون عمل مع الاعتماد على هبات ومساعدات ومزايا تقدمها الدولة ومؤسسات داعمة.
ووفقًا لبنك إسرائيل المركزي فإن تجنيد اليهود المتدينين من شأنه أن يخفف من الأضرار التي لحقت بالاقتصاد، نتيجة للحرب المستمرة على غزة والاشتباكات مع حزب الله.
ورأى البنك في تقريره لعام 2023 أنه “كلما وُزع عبء الخدمة على شريحة أكبر من المجتمع، كلما قلل ذلك من الأضرار الاقتصادية على كل من هذه الشرائح، وكذلك على المرافق الاقتصاديّة بشكل عام”.
رؤية عربية
وبعيدا عن جدل الإسرائيليين أنفسهم حول إعفاء المتدينين فإن نظرة من بعيد ستكشف أن فئة الحريديم يدرس معظمها التوراة والتلمود وعلوم الدين فقط دون الانخراط في العلوم الحديثة، كما أنهم يعيشون بأنماط اجتماعية وثقافية خاصة مما يؤشر لفئة منعزلة في دراستها وفي أنماط حياتها المختلفة وعدم اختلاطها بالمجتمع وعدم اكتراثها بالآخر إذ لديها في نصوصها الدينية المقدسة ما يحضها على نفي الآخر والخلاص منه، ولديها تراث عنصري بغيض لا يستقيم مع ما توصلت له الحضارة الإنسانية من احترام لحقوق الإنسان وتقبل للآخر ونشر لقيم التسامح والمساواة.
وإذا كان الحريديم يرون أنفسهم طائفة فوق المجتمع الإسرائيلي فما بالنا بنظرتهم للوسط العربي داخل أراضي عرب 48 وللفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وللدول العربية المحيطة بالكيان الصهيوني، وإذا كان الجيش الإسرائيلي الذي لا يضم أيا من الحريديم ذوي النزعة المتطرفة يمارس أبشع الانتهاكات بحق الشعب الفلسطيني الأعزل فما بالنا إذا تم تجنيد هؤلاء المهووسين بنزعة التفوق اليهودي في جيش يواجه بدونهم تهم الإبادة الجماعية وارتكاب جرائم حرب في مجازر لا تحصى بحق الفلسطينيين.
أكثر من الموت
الحاصل أن أبشع الرؤى والآراء قد صدرت عن الأحزاب الدينية التي ترعى مدارس الحريديم مثل وجوب ضرب غزة بالقنبلة الذرية أو أن الفلسطينيين مجموعة من الحيوانات أو أن العربي الجيد هو الموجود في القبر أو أنه يجب إيجاد طرق مؤلمة أكثر من الموت لكسر معنويات الفلسطينيين في غزة، لكن تهرب أصحاب هذه التصريحات العنصرية البغيضة من أداء الخدمة العسكرية يؤكد أن جماعة “الأتقياء” الذين يدرسون التوراة والتلمود يفضلون التحريض على قتل الفلسطينيين دون أن يجرؤ أحدهم على مواجهة طفل فلسطيني يقذف بالحجارة أو حمل سلاح حديث ليحارب به المقاومة حيث يتركون المهمة لمن يعتقدون أنهم أقل منهم شأنا في المجتمع الإسرائيلي رافعين شعار “أنا أحرض وأنت تقاتل”.