مظاهرات إسرائيل.. انقلب السحر على نتنياهو

مظاهرة تضامنًا مع الأسري الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية

دخل تعبير “الهروب إلى الأمام” القواميس العسكرية في غضون الحرب العالمية الثانية على الأرجح، إذ كان الطيَّارون اليابانيون “الكاميكازي” يَسقطون بطائراتهم المحمَّلة بالذخيرة على سفن وحاملات طائرات الحلفاء، في عمليات انتحارية حتى تنفجر بهم وبأعدائهم، وهي عمليات وصفت الصحافة في طوكيو منفذيها آنذاك بأنهم “شجعان تسري في دمائهم الروح اليابانية العظيمة”.

وفي مجالات السياسة يدل التعبير على سلوك طرف مأزوم، يروم التنصل من تحمُّل مسؤولياته، والتهرب من المساءلة عن خطاياه، عبر افتعال وتسخين ملف آخر في مراهنة على الوقت، حتى تنصرف الأنظار عن أزمته الأصلية لحين تبريدها.

والمثير للمفارقة أن التعبير ذاته له وفق ذلك، معنيان أخلاقيان متضادان، ففي حين يؤشر إلى الشجاعة عسكريًّا، يُعَد دليلًا على التخاذل الجبان في السياسة.

لدى تتبُّع مسيرته العسكرية والسياسية، يبدو أن نتنياهو تعوَّد على الهروب، سواء كان هروبًا إلى الأمام أو الخلف، وسواء كان جنديًّا في جيش الاحتلال، أو سياسيًّا تسلّق سلالم السلطة، حتى صار يُلقب “ملك إسرائيل المتوَّج”، لكونه أطول رؤساء حكومة الاحتلال قعودًا على الكرسي في ست ولايات، ولمدة إجمالية بلغت نحو 18 عامًا، تُشكّل نحو 25% من عمر إسرائيل.

الهروب هو مفتاح الدخول إلى عقل نتنياهو، وهو أبرز سمات شخصيته الباطنة، وكلمة السر في تفسير قراراته السياسية، لكنه لم يكن في أي وقت هروبًا شجاعًا كالانتحاريين اليابانيين، بل كان متهافتًا جبانًا كالنعامة حين تدفن رأسها في الرمال -بالمعنى المجازي طبعًا- لأن النعام لا تدفن رؤوسها، وتلك فرية لا أصل لها.

نصف قرن من الهروب

ويرجع تاريخ نتنياهو مع الهروب إلى أكثر من نصف قرن، وتحديدًا إلى حرب الاستنزاف، عندما كان جنديًّا بوحدة استطلاع، ضمن قوة عبرت قناة السويس بالقوارب في مايو/أيار عام 1969، لتنفيذ اعتداء على الضفة الغربية، فإذا بجندي مصري يقظ يرصد المحاولة فيفتح نيرانه على المتسللين، ليصاب “بيبي” برصاصة أحدثت خدشًا طفيفًا في رأسه، فيقفز في مياه القناة هاربًا، ليفلت من الموت بأعجوبة، ربما لسوء حظ الإنسانية بأسرها وليس الفلسطينيين وحدهم.

ومنذ تلك الواقعة التي كشفتها صحيفة “يسرائيل هيوم” قبل نحو خمس سنوات، لم يغادر نتنياهو دأبه أن يولي الدبر أمام المواقف الصعبة، ذلك أن “ريما ترجع لعادتها القديمة” مهما تقادم الزمن.

ومثلما فرَّ الجندي بنيامين نتنياهو في حرب الاستنزاف، هرب رئيس الحكومة في 10 سبتمبر/أيلول عام 2019 من قاعة لتجمع انتخابي في مستوطنة أسدود، بعد أن دوَّت صفارات الإنذار إثر قصف صاروخي مصدره قطاع غزة، الأمر الذي انتهزه زعيم المعارضة آنذاك والوزير الحالي في حكومة الحرب المصغرة بيني غانتس، ليغمز من قناة خصمه السياسي، قائلًا “ما كنت سأهرب لو كنت مكانه”.

وبعد اندلاع “طوفان الأقصى”، طيَّرت الشبكات الإخبارية مادة فيلمية لرئيس الحكومة، ومعه أعضاء بالكنيست، وهم يهرعون هربًا ويرتعدون فَرقًا، إثر صواريخ أطلقتها المقاومة على القدس المحتلة، حتى تواروا جميعًا كالصراصير في مخبأ تحت الأرض حذرَ الموت.

وفي الربع الأول من العام الماضي، وحين اشتعال المظاهرات ضد القانون المتعارف عليه باسم “حجة المعقولية” أو السلطة القضائية، الذي ناهضته المعارضة الإسرائيلية لانتقاصه من صلاحيات المحكمة العليا، ارتأى نتنياهو أن يصدر أوامره بقصف مواقع سورية، بذريعة أن قوات إيرانية تتمركز بها.

كان إشعال الجبهة السورية قرارًا بالهروب لكن إلى الأمام هذه المرة، وكان مقصودًا أن يُضرب به عصفوران بحجر واحد، فمن جهة سيشغل الرأي العام بخطر العدو الخارجي، حتى يمرر التشريع الذي سيكفل هيمنته على المحكمة، في حين ستغطي نيران الصواريخ بالتوازي على فضيحة اتهامه بثلاث قضايا فساد، يُنتظر مثوله أمام المحكمة للتحقيق فيها، ما أن يخرج من السلطة.

وبالتوازي حرَّض، أو على أقل تقدير غض بصره عن تكرار اقتحام قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى، وعلى رأسهم وزيره المتطرف للأمن القومي إيتمار بن غفير، بما أجَّج الاشتباكات مع الفلسطينيين مرات، في صورة كلية توحي بأنه كان يراقب نذر الانفجار الوشيك، منتشيًا يطلق ضحكاته الشريرة، فهذه عملية هروب مثالية، وفيها كل المقومات التي تكفل تشويش انتباه الشارع الإسرائيلي عن مصائبه السوداء.

قفزات بهلوانية بغير أفق سياسي

كذلك الأمر في اللحظة الراهنة، فعلى الرغم من الخسائر التي يتكبدها الاقتصاد الإسرائيلي منذ أكثر من ستة أشهر بعد طوفان الأقصى، وعلى الرغم من ارتفاع معدلات الهجرة العكسية إلى خارج “أرض الميعاد”، إلى حد أن إسرائيل منعت نشر إحصاءاتها منذ أربعة أشهر، ومع التقارير الاستراتيجية التي تذهب إلى أن حسم الصراع عسكريًّا في غزة هو المستحيل بعينه، وكذا ما يتردد بنبرة يقينية في دوائر الصحافة والاستخبارات وصناعة القرار العسكرية والسياسية في تل أبيب وواشنطن، بأن أي حلحلة للموقف، وأي محاولة لنزع الفتيل، لن تتأتى إلا بنزول أو “إنزال” نتنياهو قسرًا من على خشبة مسرح السياسة، وذهابه إلى البيت ليقضي ما تبقى من عمره إلى جوار زوجته سارة، التي تحوم حولها شبهات فساد بدورها.

رغم ذلك كله فإن “بيبي” لا يبدي أدنى استجابة، مراهنًا على تأييد الكتلة اليمينية في القاعدة الشعبية، ومُصرًّا على مواصلة قفزات الهروب البهلوانية، إذ يشدد على ضرورة استمرار العدوان بغير تحديد مدى زمني أو أفق سياسي منطقي لنهايته.

على أن رفض نتنياهو التنحي عن المشهد، وتبرؤه من خيبة أجهزته العسكرية والاستخباراتية والسياسية، وما أفضت إليه من تمريغ أنف إسرائيل في رمال غلاف غزة، يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، يمثل سلوكًا يتسق كليًّا مع طبائعه الهرب من المواجهة، وكذلك التشبث بالسلطة، كما لو كان “زعيم ضرورة” عربيًّا لكنه يتولى مقاليد الأمور في “واحة الديمقراطية المزعومة” بالمنطقة.

والغريب أن هذا الرفض يُعَد سلوكًا شاذًّا في دولة الاحتلال التي شهدت استقالات زعماء كبار في منعطفات أقل خطورة، ومنها استقالة مناحيم بيغن عام 1983 بعد اجتياح لبنان، وقبلها استقالة غولدا مائير في أعقاب حرب السادس من أكتوبر، بل إن الأب الروحي لإسرائيل بن غوريون استقال مرات عدة كان آخرها عام 1970، في حين أن “بيبي” يأبى الاستقالة، وينجح في التماهي مع الظروف الطارئة، رغم أنه ليس ذا قيمة معتبرة في إسرائيل، وليست لديه إنجازات عسكرية مشهودة، بل إنه مجرد “موظف سياسي” صعد إلى قمة حزب الليكود، بعد أن ورثه عن شارون لا أكثر ولا أقل.

من المقبول لتفسير ذلك أن يقال إنه “شبعة من بعد جوعة”، فالتافهون حين يبلغون القمة بمحض الصدف، يكونون أكثر تشبثًا بمناصبهم، ربما لخشيتهم من خسارة كل قيمتهم متى غادروها، ولذلك لا يتركونها إلا بعد حرق الأرض وما ومن عليها، ولسان حالهم “من يقترب من الكرسي سأشيله من على وجه الأرض شيلًا”.

لكن حرق الأرض لا يقتصر على قطاع غزة، الذي صارت منشآته أطلالًا تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد، والذي بلغ عدد الشهداء من سكانه نحو 35 ألفًا، إثر القصف الصهيوني الإجرامي، بل إن النيران امتدت إلى الداخل الإسرائيلي، وأغلب الظن أن ألسنتها قد تلتهم الكثير من مقومات التعايش لمجتمع الاستيطان الممزق أصلًا.

مظاهرات غير مألوفة في مجتمع مهيأ للانفجار

في مظاهرات الجمعة الماضية، لمطالبة نتنياهو إما بحل ملف الأسرى لدى “حماس” وإما الاستقالة، وما اقترن بها من دهس ثلاثة متظاهرين، من سائق يميني يبدو أنه مؤيد لاستمرار العدوان، وما حدث على هامشها من اشتباكات عنيفة أسفرت عن جرح شرطية، وصولًا إلى محاصرة الآلاف لمقري وزارة الدفاع واتحاد نقابة العمال، يتجلى مشهدٌ يبدو جديدًا كل الجدة في الداخل الإسرائيلي.

المعلوم أن حق التظاهر ليس مقيَّدًا في إسرائيل، على الأقل إذا قورن به في بلداننا العربية التي يقطع “السونكي الحربي” ألسنة شعوبها، لكن التطور الدراماتيكي يتمثل في ظهور ما يمكن تسميته “الطرف الثالث” الذي يندس وسط الجموع، فيتعمد التعامل بفظاظة غير مألوفة في مجتمع أبعد ما يكون عن التجانس، بما يجعله مؤهلًا لانفجار بعضه في وجه بعض، ولعله ليس سرًّا أو كشفًا غير مسبوق، أن معظم النار من مستصغر الشرر.

وأيًّا كان ما حدث، فقد خرج نتنياهو بعد إخماد المظاهرات ليكرر المكرَّر من تصريحاته، بأن الحرب مستمرة، ولا إذعان لشروط حركة “حماس”، في إصرار يبدو شديد الحماقة على ممارسة حيلة الهروب إلى الأمام، تلك التي فقدت مفعولها، وأغلب الظن أن قفزات “بيبي” البهلوانية ستفضي في وقت لا يبدو بعيدًا إلى سقطة مدوية تنكسر على إثرها رقبته، لينقلب السحر عليه، في مشهد إسدال الستار.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان