“الإغلاق” في ذكرى استشهاد شيرين أبو عاقلة

لم يكن سلوكا شاذا ولا غريبا أن تداهم شرطة الاحتلال مكتب الجزيرة وتصادر معداتها فور تصديق حكومة نتنياهو على قرار منع عملها، وسحب اعتمادات طواقمها وحجب المواقع الإلكترونية التابعة لها وعدم السماح ببثها عبر شركات الاتصال، وهو ما وصفته شبكة الجزيرة في بيانها بـ”الخطوة الممعنة في التضليل والافتراء”، وثمة نقاط عديدة يمكن التوقف عندها والتقاط بعضها وفق ما تتيحه مساحة المقال.
بداية ينبغي الاعتراف بأن القرار لم يكن مفاجئا بل ربما تأخر بعض الشيء لحسابات واعتبارات قدرتها إدارة الاحتلال على ضوء الدور النشط والمؤثر للدبلوماسية القطرية في عملية الوساطة ومكانة الدوحة لدى الفصائل الفلسطينية المقاومة، وقد “توهم” الصهاينة إمكانية الاستفادة من هذه المكانة القطرية المميزة في استعادة المحتجزين من يد المقاومة بأقل تكلفة، لكن في الأخير ومع تواصل المفاوضات من دون أن تتراجع المقاومة عن مطالبها الثابتة أسقط في يد نتنياهو وعصابته وأيقنوا استحالة تحقيق مطامعهم فكان الإغلاق نوعًا من الرد والانتقام.
القرار فضح الادعاءات الزائفة التي يروجها الاحتلال عن نفسه بأنه واحة للديمقراطية ولا ينبغي جعله على قدم المساواة مع محيطه الإقليمي والأنظمة الاستبدادية التي لا تعرف سوى لغة القمع في مواجهة المعارضين والمخالفين لها في الرأي، كما أن القرار الذي قابلته بالرفض والإدانة العديد من الجهات الدولية والمنظمات المعنية بالحريات وحقوق الإنسان (منها النادي الوطني للصحافة في واشنطن) كشف الوجه الحقيقي للكيان كبقعة عنصرية معادية لحرية الصحافة والإعلام.
بالطبع لا غنى عن الجزيرة ودورها المؤثر في نقل الأحداث، لكن في ظل التطور المذهل للأدوات التقنية التي أصبحت في متناول الجميع، صار من الصعب -إن لم يكن من المستحيل- حجب الحقيقة. ولعل نجاح رجال المقاومة بإمكاناتهم البسيطة في توثيق عملياتهم ضد العدو بمقاطع فيديو خير شاهد ودليل على ذلك. ولهذا فالقرار لن يؤثر فعليا في عمل القناة، لكنه في جوهره يعكس الحالة المزرية التي بلغها الاحتلال ومدى هشاشته واعترافه الضمني بما تكبده من خسائر على يد الفريق المهني للقناة بطول البلاد وعرضها.
فخ التطبيع وإشكالية الوقوع في المحظور
يمكن اعتبار القرار فرصة ذهبية تفتح الباب بجدية لمناقشة إشكالية التطبيع مع المحتل وحدودها وماهية الضوابط التي أثارت الكثير من الجدل طوال العقود الماضية من دون حسم، ولعل الوقت أصبح مناسبا لطرحها أمام الخبراء والمختصين لوضع النقاط على الحروف، فواقع الأمر أن القضية لم تأخذ قدرها الكافي من البحث ربما منذ تصدى لها الكاتب الراحل الكبير أحمد بهاء الدين تحت عنوان “اعرف عدوك” حينما تساءل في أعقاب هزيمة 67 مستنكرا منطق المقاطعة الشاملة لكل ما يتعلق بالعدو قائلا: كيف لنا أن ننجح في مواجهة “شبح” لا نعرف عنه شيئا؟! مطالبا بضرورة دراسة كل ما يخص الاحتلال واقتفاء أثره واستكشاف نقاط ضعفه وقوته والوقوف على كافة التفاصيل التي من شأنها دعم صانع القرار في اتخاذ ما يلزم من إجراءات لمواجهته والانتصار عليه من دون الوقوع في مصيدة التطبيع معه.
وللتذكرة فإن نقابة الصحفيين المصرية لديها ميراث هائل في رفض كافة أشكال التطبيع مع المحتل، لكنها بكل أسف عجزت عن معاقبة بعض المنتسبين إليها ممن خرقوا القرار المتجدد على مدار أكثر من دورة لجمعيتها العمومية.
على ضوء هذه الحقيقة لعلنا لا نبالغ إذا استشعرنا أن قرار الإغلاق وجد هوى في نفوس كثير من العاملين في مجال الإعلام -كما في حالة كاتب المقال- خاصة أنه لن يحول دون قيام القناة بدورها على أكمل وجه من دون حاجة إلى وجودها الرسمي ومصادقة أجهزة الاحتلال على إجازة عملها بما يمنحه شرعية لا يستحقها، فضلًا عن اضطرارها إلى استضافة بعض المتحدثين باسمه ليطلوا على المشاهدين عبر شاشتها، وهو ما أثار الاستياء كثيرا في ظل إصرار الضيوف -غير المرغوب فيهم- على ترديد الأكاذيب، ولعل خطوة الاحتلال ترفع العبء عن كاهل القناة فلا تضطر بعد اليوم (تحت بند المهنية والرأي الآخر) إلى استضافتهم، وهو أمر لطالما تمنيناه ووجهنا بسببه العتاب إلى القائمين على القناة.
واشنطن تحمي قتلة شيرين أبو عاقلة
الإغلاق يجسد مشهد الختام في سلسلة طويلة من الاستهداف الذي طال الجزيرة والعاملين بها، ولعله من المفارقات أن يأتي القرار قبل أيام من الذكرى السنوية الثانية لاستشهاد شيرين أبو عاقلة في الحادي عشر من مايو/أيار الجاري بأيدي قوات الاحتلال خلال قيامها بعملها في تغطية أحداث اقتحام جنين، ليتجدد التأكيد بأن قتلها لم يكن خطأً، بل كان متعمدا مع سبق الإصرار والترصد، وقد وثقت التقارير الدولية الجريمة، حيث انتهت لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة إلى أن “قوات الاحتلال استخدمت القوة المميتة دون مبرر بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، وانتهكت حق شيرين أبو عاقلة في الحياة”، كما خلص تقرير شبكة السي إن إن الأمريكية إلى النتيجة ذاتها، وحتى لا يفلت المجرمون من العقاب توجهت الجزيرة إلى المحكمة الجنائية الدولية (وهو الأمر ذاته الذي تكرر فيما بعد مع الشهيد سامر أبو دقة) طلبًا للقصاص إلا أن واشنطن كعادتها رفضت مسعى القناة وجددت حمايتها للصهاينة دون أن تعبأ بكون شيرين أبو عاقلة تحمل الجنسية الأمريكية.
****
أخيرا، القرار وسام جديد وتاج على رأس فضائية العرب الأولى وملاذ كل أحرار العالم بلا منازع وتأكيد لنجاحها في أداء رسالتها كصوت للحق ساهم في كشف الحقائق وفضح عصابات الصهاينة وأظهر بشاعة الجرائم التي ارتكبوها بحق الفلسطينيين بصورة أصبح يخجل منها كل أصحاب الفطرة السليمة من الرافضين لمشاهد الإبادة الجماعية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر الماضي بطريقة يندى لها جبين الإنسانية كلها.