بعد حظر الجزيرة و”تيك توك”.. إلى أي ديمقراطية تنتمي؟!

قبل 72 ساعة من الاحتفاء بـ”اليوم العالمي لحرية الصحافة”، أصدرت حكومة الاحتلال قرارا بإجماع أعضائها بوقف أعمال وأنشطة قناة الجزيرة من تل أبيب في الخامس من مايو/أيار الجاري، ألحقته بمصادرة معدات البث والخوادم وهواتف الصحفيين.
لم يكن القرار مفاجئا، من سلطة تمارس حرب إبادة جماعية على شعب بأكمله، قتلت 95 صحفيا منهم 90 فلسطينيا، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ممن يعملون بالجزيرة ووسائل إعلام دولية، تمكنوا من نقل صور حية لمجازر وحشية أردت نحو 35 ألف شهيد وخلفت 80 ألف مصاب وآلافا في عداد المفقودين، ففضحت حرب التطهير العرقي بقطاع غزة، التي تمارَس ضد مليوني إنسان، بهدف اقتلاعهم من أرضهم إلى الأبد.
المفاجأة عندما برر رئيس الحكومة نتنياهو، الذي يدعي أن دولته “واحة الديمقراطية بين شعوب من البرابرة”، قرار حظر الجزيرة ومواقعها عبر الإنترنت بأنها “قناة إرهابية تحرض على الإرهاب”!. أتي نتنياهو بتهمة يحاكَم بها وأعوانه أمام محكمة العدل الدولية، على طريقة بائعات الهوى اللائي يحلو لهن الطعن في شرف الناس، أملا في إلحاق الأذى بأثوابهم الطاهرة. فقد قال كلمة الكفر بالجزيرة، بعد ساعات من وصم إسرائيل من “مؤشر حرية الصحافة” لمؤسسة “مراسلون بلا حدود” الدولية، الأسبوع الماضي، بأنها من أكثر دول المنطقة التي تسجن الصحفيين والعاملين في الصحافة، وتعرّض سلامتهم في الصراع الأكثر دموية لتهديد كبير للغاية.
تجاهلت إسرائيل ومصر نداء 50 صحفيا أمريكيا وبريطانيا بطلب السماح لهم بدخول غزة لرصد مهني لوقائع الدمار في غزة، والإصرار على أن تُنقل الأحداث تحت وصاية جنود الاحتلال ومرور المواد الإعلامية على الرقيب العسكري، بما لا يُمكّنهم من أداء وظائفهم وجعلهم أضحوكة أمام القراء والمشاهدين.
سجون الصحفيين
يشير تقرير لجنة حماية الصحفيين الدولية لعام 2023 إلى أن الصين تأتي في المرتبة الأول عالميا لسجن الصحفيين ومن بعدها روسيا وكوريا الشمالية وإيران وإسرائيل. توجد في القوائم الحمراء كل من السودان ومصر والسعودية والعراق وسوريا وليبيا وتونس والمغرب والجزائر، ومع ذلك تشير إلى انحدار الحريات في كل من الهند التي تمثل أكبر ديمقراطية.
لم تخلُ القائمة من إشارات إلى التغير الخطير الذي تشهده الولايات المتحدة -الداعية الأولى إلى الديمقراطية- مقرونة بتحولات في الديمقراطيات التي تتجه نحو الشعوبية والقومية المتعصبة، بما يجعل الصحفيين وحرية الصحافة هدفا -وفقا لتحليل مجلة “إيكونوميست” البريطانية- للملاحقة من الأنظمة الديكتاتورية والثيوقراطية والمجالس العسكرية والدول الشيوعية ذات الحزب الواحد.
تشير “إيكونوميست” إلى أن 39% من سكان العالم يعيشون تحت الحكم الاستبدادي، الذي يتخذ الصحافة عدوا ويؤمن بأن دور الإعلام “البروباغاندا” من أجل الدعاية له وفرض أفكاره على الجمهور، منوهة إلى أن الاستبداد والانحدار الديمقراطي يقيدان حرية الصحافة بالطريقة ذاتها، وكذلك الصراع في الحرب مع توظيف التكنولوجيا في حظر المواقع والتشويش على القنوات وملاحقة الصحفيين.
جواسيس على الهاتف
في اليوم التالي لإغلاق مكتب الجزيرة في تل أبيب، طلبت مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية أفريل هاينز السماح لوكالات التجسس باعتماد قواعد لشراء البيانات عن المواطنين الأمريكيين، واستخدام تقنيات المراقبة التقليدية لشراء معلومات عن الأشخاص عبر الإنترنت والهواتف، تكشف الانتماءات الشخصية أو ممارسة الحقوق المدنية، مثل حرية التعبير، التي لا يمكن جمعها قانونا باستخدام تقنيات المراقبة الخاصة بأجهزة التجسس.
فضحت صحيفة “وول ستريت جورنال” الطلب المخابراتي، بعد 10 أيام من توقيع الرئيس بايدن على قانون أصدره مجلسا الكونغرس، يفرض بيع تطبيق “تيك توك” للولايات المتحدة، وحظره خلال 9 أشهر في حال عدم قبول شركة “بايت دانس” الصينية لصفقة البيع القسرية خلال 9 أشهر.
صنّف البيت الأبيض “تيك توك” بأنه خطر على بيانات الجمهور الأمريكي وعلى توجيه أصواتهم في الانتخابات، بعد أن أصبح صوتا حرا لنحو 170 مليون مواطن. وضعه بايدن بقائمة “الحظر السوداء” التي تضم 200 شركة صينية كان آخرها شركة “وو شي” (Wu Xi) للتكنولوجيا -أنشئت بدعم مباشر من بيل غيتس مؤسس ميكروسوفت- بتهمة مشاركة ما لديها من معلومات عن المواطنين الأمريكيين المصابين بالسرطان والسمنة وفيروس نقص المناعة مع السلطات الصينية.
تشومسكي والمفاهيم الشاذة
يرصد الفيلسوف الأمريكي ناعوم تشومسكي ظاهرة تماهي الأنظمة الاستبدادية والديمقراطية في عدائهما لحرية الإعلام، في كتاب بعنوان “السيطرة على الإعلام” أصدره بعد الحرب الأمريكية على العراق عام 2003 بزعم “القضاء على الإرهاب”، بأن الأنظمة تفضل الحديث عن الإنجازات بـ”البروباغاندا” الهائلة.
يسأل عالم اللغويات: في أي عالم تريد العيش؟ وفي أي من صور الديمقراطية يراد للمجتمع أن يكون عليها؟! يقول: إن المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه الجمهور الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شؤونهم، وأن تكون وسائل الإعلام منفتحة وحرة، أما المفهوم الآخر للديمقراطية فهو أن يُمنع الجمهور من إدارة شؤونه، وكذلك إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المشددة، مشيرا إلى أن هذا المفهوم الشاذ المستهجَن هو المعمول به والمفهوم الحاكم منذ مُدَد طويلة.
يشرح تشومسكي كيف تحوّل الرئيس ودرو ويلسون بعد انتخابه عام 1916، من داعية إلى السلام وإقامة عصبة الأمم التي اعتمدت لجنة حماية المراسلين الدوليين عام 1917، إلى تشكيله “لجنة كريل” التي نجحت خلال 6 أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى جمهور تتملكه الهيستريا والتعطش للحرب. يشير الكاتب إلى أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وظفت الإدارة التكتيك نفسه لإثارة الحرب ضد الشيوعية، وتدمير الاتحادات العمالية والقضاء على حرية الصحافة وحرية الفكر السياسي، والحصول على تأييد قوي من وسائل الإعلام التي تصدرت شؤونها مؤسسات رجال الأعمال ممن شجعوا على الحرب وإثارة مشاعر قومية متطرفة بوسائل بها قدر كبير من “الفبركة” والتزييف للواقع، اتضح بعد ذلك أنها من صناعة المخابرات البريطانية التي كانت مسؤولة عن توجيه فكر معظم العالم.
يحذر تشومسكي من انفراد لجان الدعاية -التي تجيدها الأنظمة الاستبدادية الشيوعية والديمقراطية على السواء- بتصنيع الإجماع العام، لجعل الرأي العام يوافق على أمور لا يراها بالأساس، عن طريق استخدام الدعاية السوداء، وتولي نخبة صغيرة تقرر ما هو الصالح العام، وإسكات أصوات حرة، تنقل صوت من لا صوت له، وتجعل الناس في بؤرة اهتمامها، والمهنية والجمهور مصدر قوّتها.