حتى لا تخذل السياسة ما حققه السلاح

في اللحظة نفسها التي غادر فيها وفد حركة حماس المفاوض العاصمة المصرية القاهرة عائدًا إلى الدوحة، وبتمسكه بمشروع الاتفاق الذي أعده وسطاء التفاوض -دون تغيير- كان المعنى الذي وصل إلى الجميع باعثًا على الاطمئنان “السياسة لن تخذل السلاح”.
في كل ما حدث منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي نصر استراتيجي كبير، تحقق بصمود أسطوري لمقاومة لا تملك إلا سلاحًا بسيطًا وبدائيًّا في مواجهة واحد من أقوى جيوش العالم، هذا الجيش الذي يمتلك أحدث الأسلحة من طائرات ودبابات وصواريخ ومسيّرات، ومدعوم عسكريًّا وسياسيًّا وماليًّا من أنظمة غربية واصلت انحطاطها وكانت شريكًا مباشرًا في حرب إبادة لم يعرف التاريخ الحديث مثلها، ومع ذلك فقد فشل هذا الجيش فشلًا ذريعًا بقيادته الحمقاء في كسر مقاومة وطنية امتلكت الإرادة والإيمان بعدالة قضيتها وقضية شعبها، فلم ترتكن إلى حسابات الفروق الهائلة في القوة العسكرية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن يُشعل النيران في الشرق الأوسط؟ قراءة في مصادر الصراع
علمانية الطوائف السورية
طلقات حاخام: القومية نزعة شريرة والصهيونية “أخلاقية”
في أعقاب ما أنجزته المقاومة بصمودها وصمود الشعب الفلسطيني طوال الأشهر الماضية، هناك ما يستدعي التدقيق في أي اتفاق سياسي، حتى تصون السياسة ما حققه السلاح، وحتى يحافظ المفاوض على ما انتزعه المقاتل، وحتى يرد الاعتبار للتضحيات الكبيرة الذي قدّمها الشعب الفلسطيني، وحتى تبدأ مرحلة جني ثمار النصر الاستراتيجي الذي تحقق في أعقاب انتهاء حرب الإبادة المجرمة.
فروق عسكرية تؤكد الانتصار
لم يكن ممكنًا في كل الحسابات العسكرية مقارنة أو مقاربة القوة العسكرية لدولة الاحتلال بسلاح المقاومة الفلسطينية، ومع ذلك فإن صمود السلاح الفلسطيني طوال ثمانية أشهر غيَّر القواعد السياسية في العالم كله، وأدخل ملايين المواطنين في دول الغرب الأمريكي والأوروبي إلى المعركة دعمًا لفلسطين وشعبها، وتضامنًا مع المسالمين الذين دفعوا أثمانًا فادحة على يد قوة همجية مجرمة، ورفضًا للاحتلال وسلوكه وداعميه، وهذا هو الانتصار الأهم الذي تحقق بصمود المقاومين الذين لا يزالون حتى كتابة هذه السطور يمطرون الجيش المحتل بصواريخ الهاون وقذائف الياسين، وينصبون الكمائن لجنوده في تأكيد لا تخطئه عين أن المقاومة لم ولن تُهزم، وأن أحلام نتنياهو وحكومته المتطرفة في الخلاص النهائي من المقاومة لم ولن تتحقق، وأن الصمود المذهل للمقاومة الفلسطينية لا يزال متواصلًا ومستمرًّا بشكل أدهش العالم، وغيَّر من نظرة الملايين لكفاح الشعب الفلسطيني في سبيل تحرير أرضه من أبشع وآخر احتلال عرفه العالم الحديث.
المؤكد أن هذا الانتصار الاستراتيجي الذي وصلت إليه قضية الشعب الفلسطيني بصمود وبتضحيات كبيرة للغاية لا بد أن يحافظ عليه المفاوض الفلسطيني مهما كانت الضغوط التي تواجهه، فكل ما لم يستطع الاحتلال الحصول عليه بالسلاح والقتل والتدمير والإرهاب، لا ينبغي أن يُسمح له بالحصول عليه على طاولة المفاوضات وبألاعيب السياسة ومناوراتها.
ذكاء المفاوض الفلسطيني يربك الاحتلال
في اللحظة التي باغتت فيها حركة حماس الاحتلال وداعميه بالموافقة على مشروع الاتفاق الذي أعده الوسطاء في مصر وقطر والولايات المتحدة الأمريكية، ظهر العدو مرتبكًا، وهو الذي كانت تقديراته تصب في خانة رفض المقاومة للمشروع، بعدها انكشفت نيات نتنياهو وحكومته في رفض إيقاف حرب الإبادة، وتأكيد نيته التجهيز لعملية عسكرية شاملة في رفح، وهو الأمر الذي فجّر الخلاف العلني للمرة الأولى بين الكيان المحتل وحليفه وراعيه الأمريكي، فلا يمكن تصور أن تصريحات الرئيس جو بايدن التي أكد فيها أن بلاده ستمتنع عن إمداد جيش الاحتلال بقنابل يستخدمها في اقتحامه لرفح الفلسطينية غير ناتجة عن مباغتة المفاوض الفلسطيني للطرف الآخر بالموافقة على مشروع الاتفاق في توقيت ذكي، أدركت فيه المقاومة ورطة الاحتلال وافتقاده أي منطق مقنع في استمرار حربه العدوانية، وقررت أن تكشفه بضربة سياسية مفاجئة وفي لحظة مواتية ومحسوبة بدقة، بما يزيد الضغوط العالمية عليه ويظهره على حقيقته محتلًّا مجرمًا لا يرغب في قبول تسوية سياسية لحرب إبادة استمرت طوال ثمانية أشهر.
هذا الذكاء الفلسطيني في إدارة ملف المفاوضات كان لافتًا فيه أيضًا تأكيد قوة وقدرة المقاومة في الميدان بتكثيف الضربات العسكرية لجيش الاحتلال في اللحظة ذاتها التي يستمر المفاوض في عمله على مائدة التسوية السياسية في القاهرة، بما يوحي للعالم أن القضاء على حماس حلم بعيد المنال، وأن الكيان المحتل لم يستطع تحقيق أحد أهم أهدافه التي قال إنه سيحققها منذ اليوم الأول للحرب.
هذا التكتيك الذكي والقوي الذي فرضته المقاومة الفلسطينية على مشهدَي الحرب والتفاوض يجب أن يستمر حتى اللحظات الأخيرة، وعليه يجب التمسك بمشروع الاتفاق الذي أعده الوسطاء دون تعديل، وتأكيد أنه الحد الأدنى المقبول، والإيمان بأن هذا التمسك وراءه الإيمان والتشديد على ألا تخذل السياسة تضحيات السلاح.
تصريحات قادة حركة حماس طوال الفترة الماضية تؤكد أن المفاوض الفلسطيني لن يسمح لجيش الاحتلال بالاحتفال بنصر لم يحققه في ساحات القتال، ولن يُخرج بنيامين نتنياهو من أزمته الداخلية المستحكمة، لكن الخوف الحقيقي هو احتمال تعرُّض الفلسطينيين لضغوط شديدة تمارسها دول العالم للتسليم بأقل من الحد الأدنى الذي يحفظ لكل ما تحقق من انتصار بريقه وزهوه، وينتقل بالقضية الفلسطينية ذاتها في أعقاب انتهاء العدوان إلى آفاق عالمية وإنسانية أرحب، تقرّب الشعب الذي يعاني ويلات الاحتلال من يوم إعلان استقلاله، متحصنًا بتضامن دولي وشعبي غير مسبوق في التاريخ القريب على الأقل.
بدعم عربي رسمي جاد وصادق يمكن أن يصمد الطرف الفلسطيني، وأن ينتصر المفاوض لتضحيات المقاوم، هذا الدعم العربي الذي غاب حتى الآن بشكل مقبول، يمكن أن يشكل حاضنة الانتصار في هذه المعركة التي يحق للشعب الذي قدّم فيها كل تلك التضحيات المذهلة أن يجني ثمار انتصاره، وأن ينتقل بقضيته خطوات مهمة ومؤثرة إلى الأمام، وأن يحتفل رغم كل الآلام والجروح، وأن يكسر غطرسة العدو الذي ارتكب كل تلك الجرائم لكنه سيخرج من غزة في نهاية المطاف مهزومًا مدحورًا.