إغلاق مكتب الجزيرة: هل هو نهاية الحرية الإعلامية في إسرائيل؟

ويوم بعد يوم تترسخ لدينا أكذوبة الديمقراطيات عند المتشدقين بها من دول الغرب وإسرائيل، فقد فضحت حرب غزة النفاق الغربي، وكشفت الجزيرة أكذوبة ديمقراطية إسرائيل التي لم تتحمل الحقائق التي تبثها فبادرت بإغلاقها!
أما العالم العربي الذي ابتعد عن الديمقراطية حتى أصبحت إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة التي يتغنى بها الغرب الذي ما فتئ يكيل لها المديح في كل مناسبة بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تماثل ديمقراطيات الغرب، رغم كل ما أفرزته تلك الديمقراطيات من عنصرية وكراهية وتمييز وتحريض على الأقليات الدينية المسلمة وأخيرا قرار إغلاق الجزيرة.
الصحافة تنتقد والمحلل السياسي يبرر!
إذًا جاء ذلك اليوم الذي لم تعد إسرائيل تتحمل فيه بث الجزيرة، وكشفت عن ديمقراطيتها الحقيقية التي صدعتنا بها بأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط!! وعلى يد نتنياهو تحولت اليوم إلى واحدة من دكتاتوريات الشرق الأوسط، وسنّت “قانون الجزيرة” الذي يسمح بإغلاق القنوات التلفزيونية الأجنبية في حال تصنيفها على أنها تشكل خطرًا على أمن دولة إسرائيل، وبذلك تكون إسرائيل قد فقدت أهم ميزة تميزت بها عن دول المنطقة التي سبق أن ضاق بعضها بالجزيرة أيضا وأغلق مكاتبها وسجن صحفييها.
وليد العمري وكل فريق الجزيرة الذي كان يغطي الأحداث داخل الأراضي المحتلة مشهود لهم بالمهنية الشديدة، وكانوا ينقلون الأحداث بكل صدق وتجرد، ولم يمتلكوا أي سلاح آخر غير الصدق وأخلاق المهنة وعدسات الكاميرات التي لا تكذب، ومن خلالهم عرف العالم بشاعة حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني.
وفي الوقت الذي انتقدت فيه صحيفة هآرتس الإسرائيلية قرار الإغلاق ووصفته في افتتاحيتها بأنه قد يكون بداية دكتاتورية إسرائيل الإعلامية التي تهدف إلى إغلاق أي وسيلة إعلامية إسرائيلية أو دولية لا تروق لحكومة إسرائيل، نجد أن إيلي نيسان المحلل الإسرائيلي المعروف في لقاء معه على قناة سكاي نيوز يشتبك مع الضيف الفلسطيني الذي ينتقد إغلاق مكاتب قناة الجزيرة وعدم احترام الرأي الآخر، ويعايره نيسان ويقول له “وهل أنتم في السلطة الفلسطينية أو أنتم في العالم العربي لديكم رأي آخر؟”، وبدلًا من الدفاع عن حرية الصحافة وحرية الرأي يفتخر هذا المحلل الإسرائيلي الذي طالما صدعنا بديمقراطية إسرائيل بقمع الصوت الصحفي والرأي الآخر، ويبرر إغلاق مكاتب الجزيرة في إسرائيل بحجة إغلاقها في دول عربية أخرى!!
المسيرة متواصلة
نحن نعرف أن العالم العربي ليس فيه حرية رأي، لكن هذا لا يمنع أننا أمام تجربة الجزيرة الرائدة التي انتهجت طريقًا آخر عكس كل وسائل الإعلام العربية، ونجحت فيه وحققت المعادلة الصعبة في ديمقراطية الإعلام التي لم يعرفها العالم العربي لا إعلاميًّا ولا سياسيًًّا، وحرصت على الرأي والرأي الآخر وكان هذا هو السبب الذي وضعها في مصاف المؤسسات الإعلامية الكبيرة!
شعار الجزيرة الذي يعرفه الجميع هو الرأي والرأي الآخر، وهو نقطة قوتها وتميزها، والجزيرة لا تتدخل ولا توجه كاتبًا فيها عن أي موضوع يكتب. ورغم مرور سنوات طويلة من واقع تجربتي كاتب رأي أشهد بأنها لم تتدخل فيما أكتب. صحيح قد لا تنشر بعض المقالات بسبب سياسة النشر لكن هذا يذكرني بمقال كنت قد كتبته قبل عدة سنوات في مؤسسة إعلامية غربية من ديمقراطيات الغرب العتيدة يتبنى وجهة نظري التي اختلفت مع وجهة نظر المؤسسة والدولة، وفوجئت بحذف المقال بعد ساعة واحدة من نشره وخطاب لفت نظر والمطالبة بالاعتذار عن ما كتبت!!
الصوت الإسرائيلي داخل المنطقة العربية
لتلك الأسباب التي لا تقيد حرية الصحفيين، نجحت الجزيرة وذاع صيتها، وعرفها العالم صرحًا إعلاميًّا كبيرًا، ولم تنحز قط وتمسكت بمبادئها التي تأسست عليها، وتمسكت بمعايير المهنية المطلقة في تغطيتها لأحداث الحرب في غزة، ولم تتوقف مرة واحدة عن استضافة محللين من إسرائيل وفلسطين على نفس القدر والمساحة من أجل الرأي والرأي الآخر.
الجزيرة التي أغلقت إسرائيل اليوم مكاتبها كانت هي أكبر مصدر إعلامي لنقل الصوت الإسرائيلي إلى المنطقة العربية، إذ نقلت بالصوت والصورة كل المؤتمرات الصحفية للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، وكل مؤتمرات رئيس الوزراء نتنياهو بل وكل زيارته الخارجية، وكثيرًا ما قطعت البث لنقل الأخبار العاجلة من داخل إسرائيل وزيارات المسؤولين الدوليين لإسرائيل.
المهنية تواجه الطغيان
كل ذلك لم يرض نتنياهو لأن الجزيرة لمعت في الحرب الأخيرة وانتزعت الأضواء من كل القنوات الفضائية الأخرى، وأصبحت الصوت الوحيد الذي ينقل الصورة الحقيقية لمعاناة الشعب الفلسطيني، وهو الأمر الذي أزعج نتنياهو كثيرًا، فمراسلو الجزيرة لم يهابوا الموت ولا التهديد وكانوا وسط الميدان، وكلنا شاهدنا تجربة وائل الدحدوح ومهنيته وإنسانيته الكبيرة، وكيف كان ثابتًا ممسكًا بالميكروفون يواصل نقل ما يحدث دون أن يتحدث عن مشاعره التي تعرضت للانهيار أكثر من مرة بعد استشهاد عدد من أفراد أسرته.
وفي دفاعها عن نفسها كما اعتادت الجزيرة ردت بكل هدوء على اتهامات رئيس الوزراء نتنياهو ووصفتها بأنها خطيرة وساخرة، والجزيرة التي صمدت كثيرًا أمام أقوى الدكتاتوريات التي أرادت إسكات صوتها إلى الأبد ستستمر وستواصل النجاح لأنها ببساطة ما زالت متمسكة بحرية الرأي والرأي الآخر، أما إسرائيل فستخسر كثيرًا من جراء هذا القرار لأنها لا تريد الاستماع إلا إلى صوتها فقط وذلك بداية الدخول في نفق الدكتاتورية المظلم.