خدعة المحتل.. فلنربح بالمفاوضات ما خسرناه في الحرب

واهم من يتخيل أن نتيجة المفاوضات لا بد أن تكون عادلة، وأن تتناسب مع خط سير نجاح المعارك الحربية أو فشلها، صحيح أن هناك ارتباطًا وسببية، ولكن ليس بالضرورة أن تصبح المفاوضات مرآة عاكسة لمنحنى المعارك، وليس بالضرورة أن تكون معطيات المفاوضات وظروفها وضغوطها شبيهة بمثيلاتها في المعارك.
وما سبق من تصورات لا يمنع كل طرف من الاجتهاد والسعي للحصول من المفاوضات على ما يفوق ما سبق أن حصل عليه في المعارك، أو على الأقل ألا يخسر في المكاتب ما سبق أن فاز به في الميادين والأنفاق والخنادق.
مفاوض على قدر التضحيات
لا تقل أهمية وفود مفاوضات ما بعد الحروب عن جنود المعارك الحربية أنفسهم بل تزيد في بعض الأحيان، فالحلول السياسية التي تفرزها المفاوضات هي النقاط التي توضع على حروف الحروب لتؤدي إلى معنى مفيد ومستقبل مختلف عما كان عليه الأمر قبل الحرب.
اقرأ أيضا
list of 4 items“الحذاء الشرعي”.. بعد إطلالة زوجة أحمد الشرع
فساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
ودائمًا ما تحرص الأنظمة الوطنية على الدفع بأصحاب الكفاءات والخبرات السياسية في صدارة مفاوضيها حتى تضمن أن يكون المفاوض على قدر تضحيات ودماء أفراد شعبه التي أريقت خلال المعارك، أو على الأقل أن يحقق في التفاوض كفاءة وتقدماً يوازي كفاءة المحارب وصموده وقوته ووطنيته.
والصمود كما قال أحدهم: أن تتجرع من عدوك الغصة حتى تأتيك الفرصة وقتها تستطيع أن تتفاوض بقوة.
ولا يخفى على أحد قدر خطورة الدور، فالإخفاق في التفاوض يؤدي مباشرة إلى إجهاض مكاسب الجيوش وكفاح الشعوب، ويكفي للدلالة على ذلك سرد قصتين، الأولى تلك التي ذكرها إسماعيل فهمي في مذكراته: ومفادها أن هنري كسينجر وزير الخارجية الأمريكي كان وسيطًا غير أمين، وكان يتبنى وجهة النظر الإسرائيلية ويخفي تحيزه بلعن الإسرائيليين ووصفهم بألفاظ السباب، كما كان يبدي ملاحظات مضحكة تذم القيادات الإسرائيلية، وعلى الرغم من فهم إسماعيل فهمي لأغراضه، إلا أن خدعه لسوء الحظ كانت تأتي ببعض التأثير في السادات، ففي المراحل النهائية من مفاوضات أول اتفاق لفض الاشتباك، أبلغ كسينجر الوفدين المصري والأمريكي في فندق كتراكت بأسوان ببنود الاتفاق الذي توصل إليه مع السادات حول قصر الوجود العسكري المصري شرق القناة على 7000 رجل 30 دبابة، وقد انزعج الجميع بمن فيهم الفريق الجمسي حيث شعر أن الجيش المصري قد تعرض لإذلال شديد فاغرورقت عيناه بالدموع وتراجع إلى ركن قصي في القاعة، وبدأ يبكي.
أما القصة التاريخية الأخرى التي تؤكد أهمية دور المفاوض وخطورة إخفاقه: جاءت أثناء العدوان الثلاثي على مصر في عام 1956 ومع احتدام سير المعارك بين شعب وحامية بورسعيد من جهة وبين قوات المظليين الفرنسية والإنجليزية من جهة أخرى فوجئ الجميع بالحاكم العسكري لبورسعيد يبادر دون أخذ موافقة حكومته ويدخل في مفاوضات للتوصل إلى اتفاق لإنهاء القتال، وكان ذلك رائعًا لقائد المظليين المعتدين خاصة وأن قواته المحدودة – 1450مظلي- قد هبطت قبل موعد وصول القوات البرية الرئيسة بأكثر من 24 ساعة، وكانت وجهة نظر الحاكم العسكري صاحب القرار المشبوه الذي عزله عبد الناصر فيما بعد أنه أراد تجنيب المدينة المزيد من الدمار والضحايا، وهى حجة واهية حيث أن تلك القوات لم تكن وجهتها النهائية بورسعيد.
وقد سارع وقتها مدير المخابرات في بورسعيد بإبلاغ القاهرة أن الحاكم العسكري قد بدأ مفاوضاته مع الغزاة وأن البوادر تشير إلى أنهم سيتوصلون إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وعند سماع جمال عبد الناصر بهذه الأخبار أمر بترفيع مدير المخابرات من رتبة عقيد إلى رتبة لواء مع إعطائه الأقدمية على الحاكم العسكري، وأبلغه بأن عليه أن يحول دون التوصل إلى اتفاقية وقف إطلاق النار مع كسب الوقت والاستمرار بالمقاومة، لأن عبد الناصر كان بتلك الأثناء يتباحث مع الروس وأصبحوا على وشك التدخل علنًا بالأزمة، وهو ما حدث بالفعل وانتهى الأمر في النهاية إلى فشل العدوان الثلاثي وترسيخ نظام عالمي جديد على أنقاض قوى استعمارية قديمة.
منطق المحتل
دائمًا ما يكون التفاوض مع دول الاحتلال عقب المعارك التي تذوق فيها الهزائم أو تتكبد فيها خسائر أمر شاق وعسير، ويعود ذلك إلى تشبث تلك القوى لآخر لحظة بشخصية المحتل والمستعمر المهيمن صاحب الحق في الاستهانة بخصومه، لذا فهي تعمل قدر استطاعتها على أن تربح في المفاوضات ما سبق أن خسرته في ميدان المعارك.
وهو ما جاء في كتاب سون تزو (فن الحرب): “حرب لا تستطيع كسبها حاول تجنبها والجأ للمفاوضات قدر الإمكان”.
ولا تقبل تلك الأنظمة بسهولة الاعتراف بنتائج تخالف توقعاتها وتكسر هيمنتها كطرف أقوى ومن هنا يلجأ ممثلوها إلى استخدام أساليب وتكتيكات تفاوضية متنوعة منها المماطلة وكسب الوقت والتحايل والاستنزاف والالتفاف والحرب النفسية، وتصدير اليأس، والتشويه والحرب الدعائية وتحطيم الروح المعنوية، ومنها أيضاً الاستعانة بوسيط حليف وغير محايد، وهذا الأمر الأخير كان من أهم الأسباب التي دفعت ونستون تشرشل إلى رفض التفاوض مع عدوه النازي حيث كان الوسيط إيطاليًا وغير حيادي.
ومن تلك التكتيكات نقض العهود
والتعنت مع كل اتفاق والمراوغة في تطبيقه حتى ولو كان أمرًا بسيطًا، وقد حدث في توقيت محادثات الكيلو 101 أن توجّه الفريق أحمد إسماعيل وزير الحربية إلى مكتب وزير الخارجية إسماعيل فهمي في الثالثة صباحًا لأن إسرائيل رفضت مرور كمية من “البلوفرات” إلى الجيش الثالث، وشدد الرجل عليه بأنه إذا لم يتدخل الأمريكان فليس أمامه سوى البدء في عملية عسكرية لكسر الحصار، طمأن فهمي الرجل واتصل بكسينجر الذي اندهش أيضًا، ثم طلب من الدكتور كورت فالدهايم الأمين العام للأمم المتحدة أن يصدر تعليماته إلى الجنرال المسؤول لحل هذه المشكلة السخيفة الصبيانية.