من اتحاد القبائل إلى مركز تكوين.. لماذا الجدل وأين المشكلة؟!

الأربعاء، مطلع مايو/أيار الجاري، فوجئنا بإقامة احتفال في سيناء، وإعلان تأسيس “اتحاد القبائل العربية”، أو بالأدق اتحاد قبائل سيناء، ولتجاوز مسألة أن الاتحاد مقصود وجوده في منطقة جغرافية بعينها (سيناء)، فقد قيل إنه يضم قبائل من مناطق أخرى، أي يتم تصدير رسالة مفادها أننا أمام اتحاد يشمل مختلف القبائل، وليست سيناء وحدها.
وتم إعلان تشكيل هيئة قيادية للاتحاد، ومتحدثًا رسميًّا، واختيار رئيس الجمهورية رئيسًا شرفيًّا له، مما يجعله تنظيمًا مُحكَمًا، ويُضفي عليه وضعًا خاصًّا يحوّله إلى تكتل أهلي في الشكل، بينما في الواقع هو أقرب إلى التنظيم شبه المحمي رسميًّا.
وبعد ثلاثة أيام فقط (4 مايو)، فوجئنا أيضًا بإعلان تأسيس ما يُسمى “مركز تكوين الفكر العربي”، وأقيم مؤتمر لذلك في المتحف المصري الجديد.
وظهر في الافتتاح شخصيات ثقافية وإعلامية مصرية، وهم يمثلون مؤسسي هذا المركز، وغالبًا سيتم اختيار المسؤولين عنه من هذه المجموعة المحدودة، وحتى لا يقال إن هذا الكيان يركز على مصر وحدها بأنشطته الفكرية وأطروحاته الدينية فقد تم التأكيد في اسمه وأهدافه أنه يعمل في النطاق العربي لتنوير العقل العربي، كما يشارك فيه عدد من المثقفين العرب.
ويلاحَظ وجود وصف “العربي” في اتحاد القبائل رغم الهوية المصرية للقبائل، ويوجد وصف العربي في مركز تكوين أيضًا، وهو وصف لا يعني شيئًا جوهريًّا، فالقبائل مصرية سيناوية حتى لو كانت أصولها القديمة عربية، ومركز “تكوين” يصوب عينيه على العقل والتراث المصري بالأصل.
كيانان برعاية السلطة
إذَن، نحن إزاء ولادة كيانين بينهما مساحات مشتركة من التماثل في الظهور المتزامن، وفي عنصر المفاجأة في الإعلان عنهما، فلم يسبقهما تهيئة مجتمعية، وفي نوعية وانتقائية الأشخاص الذين يتصدرون واجهة كل كيان، وارتباطهم بالسلطة وتبنّيهم خطها السياسي والفكري وقيامهم بالتسويق لما تتبناه من خطط وأفكار ومشروعات ثقافية وتجديدية وفق رؤيتها.
وضمن المشترَكات كذلك رعاية الدولة للكيانين، والأدق رعاية السلطة لهما؛ تفكيرًا وترتيبًا وانطلاقًا وأنشطة، فلا شيء يمكن أن يكون له اتصال جماهيري أو يوجه خطابات ورسائل إلى الجمهور إلا ويتم عبر السلطة أو من خلالها أو بضوء أخضر منها أو على الأقل مباركتها، وهذا طبيعي في ظل أنها تُحكِم قبضتها على المجال العام ولا تريد أي نشاط بعيدًا عن سيطرتها مهما كان هامشيًّا، فهي لا تود أن تتعرض لمفاجآت ليست في الحسبان.
جدل محمود ومطمئن
سألت في عنوان المقال: لماذا الجدل الذي يرافق ظهور هذين الكيانين؛ اتحاد القبائل ومركز تكوين؟
هذا جدل طبيعي، وهو يعني أن الجمهور العام، وفي قلبه النخب على اختلاف مشاربها، لا يزال حيًّا وقادرًا على الفعل واتخاذ مواقف وإعلانها بجرأة رغم القيود المفروضة على المشهد العام ومحاولة تدجين العقل الجمعي وتوجيهه في مسار معيَّن ومحدَّد تريده السلطة.
الجدل هنا محمود ومطمِئن، فهو يعني استشعار سلبيات أو قلاقل أو أخطار من هذا الكيان أو ذاك أو كليهما معًا، وبالفعل هناك صخب ونقد وهجوم واسع على الكيانين لم يهدأ ولن يهدأ قريبًا، ذلك أن اتحاد القبائل هو التنظيم الأول من نوعه في تاريخ كيان الدولة والمجتمع في مصر الذي يؤسَّس ويعمل وفق أجندة أهداف خاصة به حتى لو كان ذلك في إطار الدولة أو تحت هيمنة السلطة وأجهزتها.
مصر ليست موحَّدة جغرافيًّا فقط منذ القدم، بل إن شعبها متلاحم متجانس منصهر في بوتقة واحدة، فلا تقسيمات أو تصنيفات أو تنوع موجود وظاهر فيها بشكل حاد سواء على أساس قومي أو عرقي أو لوني أو لغوي أو طائفي أو غيره، إنما هي بشعبها كله سبيكة واحدة فريدة بالفعل.
هواجس القلق والخطر
ولذا فإن ظهور تنظيم أو تكتل على أساس جغرافي لا بد أن يثير القلق ويفجّر هواجس الخطر، وهو أمر مطمِئن بأن المجتمع والشعب والنخب على اختلافها حريصة على وطنها وتماسك دولتها واستقرارها، وهذه هي الترجمة العملية الحقيقية لمعنى الحفاظ على كيان الدولة وليس الشعارات والبيانات والفقرات النظرية التي ترد في تصريحات أو خطابات رسمية.
تمتين الدولة وقوتها بالأفعال التي لا تنتقص منها وليس بالأقوال ثم نفاجأ بممارسات عكسها ونموذج ذلك إطلاق اتحاد القبائل.
والجدل حول هذا الكيان لا يقتصر على وجوده وما قد يمثله من مشكلة للدولة والمجتمع في لحظة تأزم أو تصادم لا قدَّر الله، إنما الجدل يمتد إلى الأشخاص المسؤولين عنه وخاصة رئيسه إبراهيم العرجاني الذي انتقل من الخصومة مع السلطة زمن مبارك إلى الاندماج فيها وقيادة مشروعات ضخمة في زمن السلطة الحالية.
شكوك حول “تكوين”
والجدل الحاد يصاحب ظهور مركز تكوين الثقافي أيضًا، وهو مرتبط بالفكرة نفسها وبالأشخاص القائمين عليه والمتصدرين له، وهم مثار شكوك وعدم ارتياح ليس شعبيًّا فقط إنما من تيارات وشخصيات ذات بعد فكري وثقافي وأكاديمي.
إذا كنا نتحفظ بشدة على تأسيس تكتل من أفراد تتوفر له مقومات وموارد ويتحرك في جغرافيا (سيناء) يعرفها جيدًا ويسيطر عليها، وفي لحظة تناقض وتصادم حاد قد يغريه ما تحت لديه من إمكانات وأفراد للقيام بأفعال غاية في الخطورة، فإنني لا أتحفظ على إطلاق مركز فكري ثقافي تجديدي إذا كانت نوازعه آمنة ومضمونة ووطنية ونزيهة، وتعمل بالفعل على التنوير وترقية العقل وإرساء ثقافة الحوار والتقدم نحو الحداثة، إنما المشكلة في شخوص هذا المركز، فهم ليسوا أهلًا للتنوير ولا جديرين بهذه العملية، إذ فقدوا ثقة الجمهور بأفكارهم الاستفزازية للمشاعر العامة وخوضهم في قضايا دينية بدون علم وتشكيكهم في ثوابت عقائدية بجهل.
مشكلة الكيانين في الفكرة ومن يقومون عليهما، والارتياب الشعبي فيهما حقيقي وناضج، هما مولودان مشوَّهان سيطويهما النسيان سريعًا.