كيف تحولت أمريكا إلى دولة تقمع مواطنيها لصالح الصهيونية؟
لم يعد المواطن الأمريكي أفضل حالًا ممن يعيشون في الدول القمعية، لقد أصبح يمشي في بلاده خائفًا يترقب، ماذا يقول؟ ولمن يقول؟ وكيف يعبّر عن دواخله وشكوكه؟ فجواسيس اللوبي الصهيوني وداعميه في كل مكان، إنهم يتابعونه من حيث لا يدري ويترصدون حركاته وما يكتب أو ينشر، تصارعه رغبة بين البوح والصمت، بوح قد يطيح به إلى أسفل سافلين أو صمت قد ينأى به عن التهلكة.
المواطن الأمريكي المتعاطف مع غزة مهما كانت قامته العلمية أو الأدبية، أصبح مكبَّلًا بمجموعة من القوانين التي استُحدثت خصيصًا على حجم تعاطفه، فالتعاطف مع غزة يعني معاداة السامية ودعم الإرهاب، وإذا نجا من هذه القوانين فإنه قد يحاسَب خلف الكواليس من جماعات الضغط الصهيونية وعلى رأسها لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) التي ينتشر أعضاؤها في كل مكان، مؤسسة يديرها متطرفون لا يثنيهم شيء عن الإضرار بمعارضيهم، ليجد الشخص نفسه مهدَّدًا بمجموعة من العقوبات بدءًا من الطرد من العمل أو الإضرار بمصالحه الشخصية وانتهاءً بالابتزاز أو حتى الإيذاء الجسدي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنتنياهو وحزب الله.. والرهان على ترامب
النصيب العربي في التجارة الأمريكية وتأثيره السياسي
أنقرة وخطأ الرهان على أوجلان لحل المشكلة الكردية
وليس من المبالغة القول إنه منذ تأسيس “أيباك” عام 1953 لم تعد الولايات المتحدة ملكًا للأمريكيين، ولم تعد قادرة على اتخاذ قرارها بنفسها، وأصبحت مقدرات الشعب الأمريكي تذهب لدعم إسرائيل ومصالحها أو حروب تشنها الدولة بضغط من اللوبي الصهيوني في دول لا يعرفها الأمريكيون إلا من خلال إعلان الحرب، ولا يعلمون لماذا يذهب أبناؤهم إليها مقاتلين؟ وفوق ذلك يدفعون الضرائب ثمنًا لعتادها.
“أيباك” ترسم السياسة الأمريكية
وليست مبالغة أيضًا أن نقول إن “أيباك” تُعَد أقوى اللوبيات التي شهدتها بلاد “العم سام”، فهي تؤثر بشكل كبير في تحديد ورسم سياسة أمريكا تجاه الدول الأخرى ولا سيما العالم العربي، فمنذ تأسيسها، يخبرنا منطق الأحداث أن هذا اللوبي كان ولا يزال يرسم السياسة الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية لسنوات طويلة.
وتعرف جماعات الضغط والمصالح أنها ليست لها أي صفة رسمية في الحكومة، وهي جماعة مؤثرة تتميز بنوع من التنظيم وممارسة الضغط السياسي المعيَّن على صناع السياسة العامة الرسميين لتحقيق أهداف محدَّدة تسعى إليها من خلال قوتها التأثيرية، منها ما هي مصالح مادية مثل الحصول على مزايا ومساعدات مالية، وأخرى معنوية مثل تأكيد قضايا ثقافية وعقائدية وأفكار تعكس توجه هذه الجماعة وحقوقها على حساب حقوق الجماعات الأخرى في المجتمع.
إن تغلغل اللوبي الصهيوني (أيباك) في الأوساط الأمريكية أصبح أكثر وضوحًا مع الحرب على غزة والحراك الطلابي في الجامعات الأمريكية للتنديد بالإبادة الجماعية للفلسطينيين، وما نتج عن ذلك من قرارات اتخذها الكونغرس بضغط من “أيباك” لتمرير ما أُطلق عليه “قانون التوعية بمعاداة السامية” الذي يبيح لسلطات إنفاذ القانون في أمريكا قمع المتظاهرين بقسوة ومنع ذكر كلمات مثل “الإبادة الجماعية” أو رفع علم فلسطين أو ارتداء الكوفية الفلسطينية، ليصبح حتى التعبير عن إدانة المجازر جريمة وانتقاد إسرائيل جريمة، وكأن السامية أصبحت فوق كل الأعراق الأخرى.
مشروع قانون يجرم التشكيك
لم يقتصر الأمر على ذلك، إذ أوردت تقارير إعلامية غربية أن الكونغرس الأمريكي يعكف على إصدار قانون يمنع أي شخص من التساؤل أو التشكيك في أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، وينص على فرض غرامات تصل إلى 10 آلاف دولار والسجن لمدة 5 سنوات لأي شخص يشكك في الرواية الرسمية، ويأتي هذا المشروع في أعقاب نشر العديد من المثقفين الأمريكيين والغربيين شكوكهم حول من يقف خلف أحداث الحادي عشر من سبتمبر واللمز إلى الصهاينة، ولسان حالهم يقول “من ينفذ المجازر بحق الفلسطينيين والأطفال في غزة وينشرها على الهواء، فلن يتردد في تنفيذ هجمات أدت إلى مقتل نحو 3000 شخص في هجوم على برجَي مركز التجارة العالمي”.
الحقيقة أن لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (أيباك) منذ تأسيسها لم تُخفِ نياتها وأهدافها، فهي مؤسسة مسجلة رسميًّا بصفتها جماعة ضغط لدعم إسرائيل باسم الطائفة اليهودية الأمريكية، وأعلنت منذ إطلاقها الحرص على منع أي تقارب أو تحالف أمريكي عربي قد يؤثر في مصالح إسرائيل، ويمتد دور اللجنة إلى إعداد قادة أمريكيين مناصرين لإسرائيل والصهيونية.
ولا يخفى على أحد أيضًا أن هذه اللجنة التي تقدَّر ميزانيتها السنوية بـ67 مليون دولار، ويزيد عدد أعضائها على 100 ألف شخص إضافة إلى آلاف المتطوعين، تستخدم كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لشراء السياسيين الأمريكيين، وتلجأ إلى أساليب متعددة منها دعم المرشحين ماليًّا من الحزبين بشرط أن تتوافق أفكارهم مع توجهاتها، أو الضغط على المرشح الذي لا يتوافق معها وتهديده بإسقاطه من خلال تشويه السمعة أو الابتزاز أو دعم المرشح المنافس.
ومع تنامي نفوذ الحركات الداعمة لقضية الشعب الفلسطيني في الجامعات الأمريكية، ركزت “أيباك” على بسط نفوذها في الهيئات التعليمية والطلابية، ويظهر تأثير هذه اللجنة أخيرًا بعد أن انخفضت أسهم شركة أحد رجال الأعمال بنسبة 14%، وهو أمريكي من أصل فلسطيني، بعد أن أعلن دعمه للطلبة المناهضين لحرب الإبادة في غزة الذين تم فصلهم، ودعوته لهم إلى العمل في شركته، إذ قام اللوبي الصهيوني بحملة شرسة ضده مما أثّر في أسهم شركته.
خلاصة القول: إن النظرة التي كان يُنظر بها إلى الولايات المتحدة منذ تأسيسها بصفتها دولة الحريات وحقوق الإنسان، وأنها الاستثناء بين دول العالم، وأن الدول يجب أن تأخذ منها الدروس لإصلاح أنظمتها، كل ذلك أصبح سرابًا أدركه مواطنوها والمهاجرون الذين تركوا بلدانهم ليصبحوا مواطنين أمريكيين.
لقد أحدثت غزة هزة قوية ليس فقط في الأوساط الأمريكية وإنما في العالم، في نظرتها إلى ما يُطلَق عليه “العالم الحر”، إذ أضحت فكرة الاستثناء الأمريكي مضحكة، فأين الاستثناء وفي أي نواحٍ؟ وبماذا يختلف النظام الأمريكي عن الأنظمة السياسية الأخرى؟