سعيد إسماعيل علي.. التربوي والإنسان

الدكتور سعيد إسماعيل علي شخصية ثرية بالعطاء العلمي المتنوع، فرغم تخصصه الدقيق في أصول التربية، فإنه من الجيل الذي تأسس علميا بشكل لا يقف به عند تخصصه الدقيق، بل يتسع فهمه وعطاؤه لتخصصات لا تبتعد كثيرا عن تخصصه بل تشتبك معه، وذلك من خلال ارتباط العلوم ببعضها، ولا يحسن ذلك ويدركه فهما وعطاءً إلا القليل من أهل الفكر والكتابة.
فهناك أكاديميون إذا طرح موضوع خارج إطار تخصص أحدهم، وربما أطروحته للدكتوراه والماجستير، تراه كأنه لم يمر بحقل العلم والفكر، أو البحث العلمي يوما، وهذا من آفات التعليم التي نعانيها في بلادنا، ويلحّ في الحديث عنها واستنكارها سعيد إسماعيل علي، وهو حديث ملؤه الحسرة، على تردي الأوضاع التعليمية والعلمية في بلد بحجم مصر، وتاريخها وعطائها الفكري.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
تسليم سلاح المقاومة!.. ماذا تبقى للوطن؟
وإذا كانت جامعة عين شمس قد منحته جائزة الرواد، مطلع هذا الشهر، في مجال العلوم التربوية، فإن مثل سعيد إسماعيل علي تزدان بهم الجوائز، ويكونون إضافة حقيقية إليها، ولا تكون هي الإضافة المنتظرة أو المبتغاة، ليس تعاليًا على التقدير، لكنها مكانة الرجل الفعلية، فعطاؤه الفكري المتنوع والشامل، يجعله في مصاف الريادة والرواد الكبار منذ زمن طويل.
لم ألتق به مباشرة، بل التقيت به عن طريق بعض كتبه، وكانت بدايتي مع كتابه: دور الأزهر في السياسة المصرية، ثم وقفت طويلا مع كتابه: التصور النبوي للشخصية السوية، وكدت أكتب عنه مقالا في شهر رمضان الماضي، لكن حالت ظروف دون ذلك، ومن الإجحاف لعطائه أية محاولة مني للكتابة عن هذا العطاء في مقال أو مقالات مختصرة، لأنه سيكون أشبه بمن طُلب منه صبّ بحر في قارورة.
لكنّ هناك جانبا مهما برزت منه شخصية سعيد إسماعيل علي، ربما لم تبرز لقرائه، أو طلبته بالعموم، وربما برزت لبعض خواص طلابه من خلال تعاملهم المباشر معه، وهو الجانب الإنساني فيه، ويستطيع من يتابع صفحته على الفيسبوك، أن يرصد ذلك، سواء من خلال إطلالة سريعة عليها، أو من خلال المتابعة اليومية لكل ما يكتبه أو يضعه على صفحته، سيجد المتابع شخصية لم يقف بها العطاء عند الجانب الفكري والعلمي، وهو عظيم وثري عنده، لكن الجانب الإنساني بارز، وهو ما نفتقده في كثير من أهل العطاء العلمي، حيث تجده في المجال العلمي سخيا من حيث التناول، لكنه من حيث السلوك والتعامل البشري بعيد جدا عما يكتب، أو عما ينظر له، وهذه منحة ربانية يختص بها بعض عباده، وقليل ما هم.
التربية بالفكاهة السياسية
تبدو شخصيته محبة للفكاهة، وهو لا يبتعد بها عن مجاله الفكري والعلمي، وهو التربية، فكثيرا ما نجد صفحته تمتلئ بالفكاهة، فبعض العلميين إذا دخل مجال الفكاهة ينزل عن مجال العلم، ويبلغ به الإسفاف مقاما لا يليق بعلمه ومكانته، على عكس ما نراه في فكاهات إسماعيل علي، التي لا تنفك مطلقا عن التربية، فرغم تمثلها الجانب الأخلاقي، فإنها لا تخلو من الفكاهة، والهدف التربوي كذلك.
وسواء كان ذلك فيما يكتبه أحيانا، أو ما ينتقيه مما قرأه، أو شاهده، فيقوم بمشاركته على صفحته، فإنك تشعر من ذلك بهذا الجانب الذي اشتهر به المصريون بوجه عام، وبعض الكتاب بوجه خاص. وكثير من هذه الانتقاءات تتعلق بالفكاهة السياسية، ومعظمها إسقاط على الواقع المتردي الذي نعيشه في مجالات عدة، وكانت السياسة وسوء الإدارة السياسية والتعليمية سبب ترديه.
لا يقدر الكبار إلا الكبار
وبحكم الظروف العامة التي تعيشها مصر، فمن القلائل الذين يتحدثون في الشأن العام دون اندفاع أو تهرب: الدكتور سعيد، ولكن ما يحسب له أنه رجل وفي، فكثيرا ما كتب عن شخصيات مظلومة في مصر، ربما جلب الحديث عنهم مشكلات، يرى البعض أنهم في غنى عنها، وأن الله عليم بما في القلوب، أو بمواقفهم الشخصية دون إعلان، لكن على خلاف ذلك لنبله ووفائه كثيرا ما رأيناه يتحدث عن الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، وأن مكانه الطبيعي خارج السجن، وهو وفاء منه لشخصية لها تاريخها.
وقد فوجئت بعد وفاة شيخنا الدكتور يوسف القرضاوي بشهور، بكتابة الدكتور سعيد منشورا على الفيسبوك، يعتذر فيه عن عزائه المتأخر، ذاكرا مواقف شخصية في مؤتمرات علمية جمعته بالشيخ، وأن مانعه من التعزية وقتها، الظروف التي تعيشها الحالة السياسية والعامة، وما يجري من تسميم للأجواء، وجعلها أجواء غير طبيعية، وغير إنسانية كذلك.
في الحقيقة أكبرت في الرجل رغم قلة لقاءاته بالقرضاوي، أنه شعر بأن الواجب الأخلاقي نحو شخصية بحجم القرضاوي أن يقدم فيه التعزية، ولو كانت متأخرة، رغم أنه لن يلام على ذلك، بل يعذر كما يعذر كثيرون غيره، وفي عزاء أسرة القرضاوي وتقبلها للمعزين، قدمت تفهمها لشخصيات ودت تقديم الواجب لكن حالت الحالة العامة دون ذلك، سواء على مستوى المصريين، أو العرب. بعد قراءتي لكلام الدكتور سعيد، قلت: لا يقدر الكبار إلا الكبار.
كثيرا ما كتب سعيد إسماعيل علي على صفحته على الفيسبوك يتساءل عن سر بقائه إلى هذا الزمن، وهذا العمر، حتى يرى حال مصر بما فيها من تردٍّ في مجالات عدة، وهل هذا عقاب من الله له، أم ابتلاء؟ ولكن الجانب الذي لا أظنه يغيب عن أستاذنا أن وجوده بيننا هو في الحقيقة إكرام من الله لمتابعيه ومحبيه، ومن نعم الله عليهم وعلينا، فهذا هو الجانب الذي ينبغي النظر إليه، وإن دفعه تواضعه إلى عدم الشعور به، أو التساؤل الممزوج بالألم.