وجع في قلب “كامب ديفيد”
المؤكد حتى الآن أن هزة قوية حدثت -للمرة الأولى- في قلب اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية المعروفة إعلاميًّا بـ”كامب ديفيد”.
ما بين السطور في لهجة السلطة بمصر أوضح مما هو معلَن، وفي تجاوز إسرائيل لخطوط حمراء لم تحدث من قبل ما يثير الغضب ويجعل العلاقات المستقرة منذ عشرات السنين أمام اختبار جاد، هذه حقيقة لا ينكرها كل مدقق في الأزمة “نصف الصامتة” التي تفجرت أخيرًا بين السلطة في مصر والكيان المحتل على خلفية احتلال الجيش الصهيوني لمعبر رفح الفلسطيني، في تجاوز واضح لنصوص الاتفاقية الدولية الموقعة بين البلدين في عام 1979.
حتى الآن تبدو الأزمة “نصف صامتة”، فلم تنفجر بشكل كبير وغير محسوب، لكنها أيضًا غير خافية ويمكن رصدها بدقة في تصريحات ومواقف سياسية كاشفة وجديدة، ولم تحدث منذ بداية العدوان.
مؤشرات وتصريحات تكشف الأزمة
الأزمة “نصف الصامتة” كشفتها تصريحات سياسية ولقاءات عسكرية تسارعت منذ دخول الجيش المحتل إلى رفح الفلسطينية، هذه الخطوة المجنونة أثارت غضبًا رسميًّا، بعدما وضعت نظام الحكم في مصر أمام موقف جديد وغير مسبوق، بات عليه التعامل معه بما يليق بدولة كبيرة، وبما يُرضي الضمير العام الغاضب منذ بداية العدوان.
بعد يوم واحد من احتلال معبر رفح من الناحية الفلسطينية ورفع العلم “الإسرائيلي” عليه، حاول قائد القيادة المركزية في الجيش الأمريكي مايكل كوريلا في لقاء جمعه بوزير الدفاع المصري احتواء الأزمة التي تتسارع وتيرتها، وتخفيف وطأة اختراق الجيش المحتل للاتفاقية الدولية التي تمنع قواته من الدخول إلى المنطقة “د” بدون موافقة رسمية مصرية صريحة.
البيان الذي أصدره “كوريلا” عقب الاجتماع تضمّن ما يمكن اعتباره تلميحًا إلى الأزمة واحتواءً لها في اللحظة نفسها، فقد نشر ما معناه أنه “أجرى الزيارة بهدف الحصول على فهم أعمق لوجهات نظر القادة العسكريين المصريين “بشأن الأمن الإقليمي” وحالة المساعدات الإنسانية، كاشفًا أن المحادثات “ركزت على المخاوف الأمنية الإقليمية في غزة والبحر الأحمر، وتخفيف المعاناة الإنسانية في القطاع، والحاجة إلى إعادة الاستقرار في أعقاب الصراعات الإقليمية الحالية”، مضيفًا أن “مصر تؤدي دورًا حاسمًا في الأمن الإقليمي وكان لها دور فعال في تمكين المساعدات الإنسانية لشعب غزة”، وأن مثل هذا الاجتماع “ضروري لبناء فهم أعمق للتحديات الإقليمية والحفاظ على العلاقات اللازمة لتحسين الأمن”.
بعد الاجتماع العسكري بأيام قليلة، كشفت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن لشبكة (سي إن إن) جانبًا من الأزمة “نصف الصامتة” بين السلطة في مصر والكيان المحتل، فبعد أن أعلن بايدن أن الولايات المتحدة أوقفت شحنة من القنابل التي طلبتها “إسرائيل” لاستخدامها في هجومها على رفح، كشف ما سمّاه “غضبًا مصريًّا” من دخول جيش الاحتلال إلى معبر رفح الفلسطيني، في إشارة إلى انتهاك نصوص اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، قبل أن يعود ويؤكد أهمية مصر ودورها في المنطقة.
في العاشر من شهر مايو/أيار الجاري، نشرت وسائل إعلام “إسرائيلية” عن إلغاء الجيش المصري اجتماعًا معدًّا سلفًا مع قادة عسكريين إسرائيليين دون إعلان تبرير لأسباب الإلغاء، وإن كانت المؤشرات كلها تشير إلى أن القرار يرتبط بهذا الوجع الذي أصاب قلب اتفاقية كامب ديفيد، وبتوتر في العلاقات، وبغضب من جانب السلطة في مصر على الانفلات الصهيوني.
التغير الواضح في اللهجة الرسمية جاء كاشفًا أيضًا لطبيعة الأزمة “نصف الصامتة” بين السلطة في مصر والكيان المحتل، فرغم مرور نحو ثمانية أشهر على العدوان الصهيوني على غزة، ورغم أن دعوى جنوب إفريقيا ضد الاحتلال في محكمة العدل الدولية مر عليها نحو ستة أشهر، فإن وزارة الخارجية أعلنت منذ أسبوع فقط انضمام مصر رسميًّا إلى دعوى البلد الإفريقي في محكمة العدل، تلك الدعوى التي تتهم “إسرائيل” بارتكاب أعمال إبادة جماعية بحق الفلسطينيين في غزة.
المؤكد أن قرار الانضمام إلى الدعوى في هذا التوقيت تحديدًا وبعد الأشهر الستة هو التعبير الأوضح عن الأزمة السياسية التي تفجرت في أعقاب الاقتحام الإسرائيلي لرفح، وبعد السيطرة على المعبر من الجهة الفلسطينية.
لهجة الإعلام
في لهجة الإعلام الرسمي ضد “إسرائيل” ما يشير بوضوح إلى عمق الأزمة نصف الصامتة بين السلطة في مصر والكيان المحتل، فلأول مرة تستخدم القنوات التلفزيونية المحسوبة على السلطة لهجة غاية في التشدد ضد الاحتلال، وللمرة الأولى يستهدف الإعلام الرسمي نتنياهو وحكومته بلغة حادة، تصفهم بالتطرف وتكشف عن نهايتهم واحتمال سقوط حكومتهم، بل إن هجوم الإعلام الرسمي على إسرائيل وصل إلى درجة استدعاء واستخدام قصائد شعرية لها تأثير قديم ومهم في الوجدان الشعبي المصري مثل قصيدة الشاعر الشهير الراحل أمل دنقل “لا تُصالح”!
هذه اللغة التي استخدمها الإعلام الرسمي طوال الأيام الماضية هي نفسها التي كانت اتهامات رجال السلطة في مصر تلاحق الأصوات المعارضة التي تستخدمها بعد أن توجه إليهم اتهامات الإثارة وتحريض الجماهير!
خلال الأيام الأخيرة لم تَخلُ شبكات التواصل الاجتماعي في مصر من تسريبات غير رسمية، كلها تتحدث عن دراسة السلطة سحب سفيرها في تل أبيب، والمؤكد أنه لا يمكن فصل هذه التسريبات عن السياق نفسه الكاشف لطبيعة ومستوى الأزمة التي بدأت منذ العملية الإسرائيلية في رفح.
ماذا يمكن أن يحدث؟
حتى اللحظة الحالية فإن الأزمة “تحت السيطرة”، وتبدو السلطة في مصر غير راغبة في دخول مواجهة سياسية مفتوحة مع إسرائيل، لكن المؤكد أن كل ما يمكن توقعه بشأن إمكانية احتواء الأزمة أو تصاعدها يرتبط ارتباطًا مباشرًا بما سيتخذه الكيان المحتل من إجراءات على الأرض، فإما أن يواصل انفلاته من كل القيود القانونية والسياسية دون اهتمام بأي رد فعل، وعندها يمكن التنبؤ بتصاعد الأزمة إلى مستويات أكبر ولا سيما مع رأي عام شعبي غاضب ومتصاعد يطالب “بتأديب” الكيان المحتل، وتغيير الدبلوماسية الناعمة إلى أخرى خشنة تعيده إلى صوابه، وإما إنهاء الجيش الصهيوني عمليته في رفح، وانسحابه من المعبر قبل أن يعود إلى مائدة التفاوض، ووقتها يمكن القول إن الأمور ستعود إلى مستوياتها قبل عملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول الشجاعة.
باختصار: إما انتهاء عملية رفح والعودة إلى “السلام الرسمي البارد”، وإما مزيد من استدعاء “لا تُصالح” وغيرها مما يعيد العقل المصري إلى تاريخ الصراع مع الاحتلال والصهيونية، ويزيد من الأوجاع في قلب “كامب ديفيد” التي أخرجت مصر من الصراع العربي الصهيوني منذ أكثر من أربعين عامًا، ومن ثَم علينا الانتظار الذي في الغالب لن يكون طويلًا!