عمنا “عبد القدوس” في محبته ونقده

محمد عبد القدوس على سلّم نقابة الصحفيين المصريين، يحمل العلم ومكبر الصوت في النضال ضد مبارك (منصات التواصل)

بحلول القرن الحادي والعشرين، صدرت مجلة “التايم” الأمريكية في عدد يعرّف بمئة شخصية بالعالم توقعت أن تصبح الأكثر تأثيرا، واختارت من مصر شخصيتين اثنتين فقط، هما المحامية “منى ذو الفقار” والصحفي “محمد عبد القدوس”. وما زلت أتذكر منطق اختيار “عمنا”، كما يحلو له أن ينادي زملاءه وأحبابه.

رأت أن الرجل المولود في 20 مايو/أيار 1947، وبعدما اقترب من الثالثة والخمسين من العمر عند النشر واختبرته المواقف وأظهرت الأحداث كنهه، يجمع بين الإسلام المعتدل والحداثة والعصرية، ويقدّم نموذجا ناجحا في هذا من مصر للعالم العربي. وهذا مع الإشارة إلى الميراث الأدبي المعنوي لوالده الروائي المعروف بجرأته اجتماعيا “إحسان عبد القدوس” وعائلته ذات الباع في نهضة المسرح والصحافة وحرية المرأة بالمشرق العربي، وعلى نحو خاص جدته “فاطمة اليوسف” وجده “محمد عبد القدوس”.

من ملعقة ذهب إلى “بُرش” السجون

جاء “عمنا” إلى الدنيا و”بفمه ملعقة ذهب”، فهو الابن البكر لأبيه حبيبه “سانو” كما كان يلاطفه الأصدقاء والأقربون. وحتى تنظيم أو تأميم الصحافة عام 1960، كانت دار ومجلة “روز اليوسف” ملكية خاصة لعائلته، ومشروعا ناجحا يتوسع، فيُصدر قبل أربعة أعوام مجلة “صباح الخير” الشبابية.

ولا أعرف هل تحتفظ ذاكرة “عمنا” بذكريات عامه الثالث عشر عن وقع تحوّل الدار وإصدارتها، كغيرها من مؤسسات الصحافة في مصر، إلى ملكية سلطة الدولة (الاتحاد الاشتراكي)، وعواقبه لاحقا على علاقة الأب بـ”روز اليوسف”.

لكن “إحسان” الأب كان قادرا على التكيف والاستمرار مع متغيرات وعواصف السياسة والصحافة، لينتقل من رئيس تحرير في ملكه إلى قيادة صحفية لا تغيب عنها الأضواء والمواقع القيادية لدى “مملكة صحف سلطة الدولة”، وسواء في عهدي “عبد الناصر” أو “السادات”.

والأول انقلب من “صديق” قبل ثورة يوليو إلى “ريّس” في نظام سلطوي شمولي “ثوري/بوليسي!”، يحبسه عام 1954 نحو 75 يوما بسبب نشر “روزا” مقالا بعنوان “الجمعية السرية التي تحكم مصر”. ولا أعرف أيضا هل تعلق بذاكرة “عمنا” كيف استقبل صغيرا وفي سن الثامنة حبس “سانو”؟ وما أثر هذا الحدث الجلل على شخصيته وخياراته لاحقا؟

ما أعرفه وغيري أن “عمنا” اختار لنفسه طريقا يختلف عن الأب والجدة والجد، فأصبح “إسلاميا” بين “الإخوان المسلمين”، يكتب في مجلة الجماعة “الدعوة” التي أعيد إصدارها بين 1976 و1981. ويعرف بدوره خشونة “بُرش” المحابس كوالده، لكن لمرات تعددت، ومن دون تولى رئاسة تحرير أو مناصب قيادية.

وعلى خلاف الأب “سانو”، لم يدفعه “الحبس الأول” في سبتمبر/أيلول 1981، وليس “الحب الأول”، إلى الحذر والابتعاد عن العمل العام والسياسي المعارض للسلطة والنقابي المستقل عنها.

ومن ينسى قيادته بعد نحو عامين فقط من انتخابه الأول لمجلس نقابة الصحفيين المصريين لاعتصام خلال عام 1987 في احتجاج ناجح بمقر النقابة على تطاول وزير الداخلية الرهيب “زكي بدر” على الصحفيين، وإهانتهم تحت قبة البرلمان؟

ومن ينسى ما شاهدته بنفسي وآخرون أمام مبنى النقابة، كيف خرج ليحتج مع نفر من زملائه الصحفيين على حكم “مبارك” وقمعه مساء يوم 26 يناير/كانون الثاني 2011؟ فيتعرض للسحل و”الحمل مرابعة”!

ولا يُقارَن جسد “عمنا” حجما بنحافة “غاندي الهند” وضآلته، لكنني كنت أرى وجه “المهاتما” في كل مرة يتحدى منتزعا حق الاحتجاج السلمي في الفضاء العام بافتراش رصيف نقابة الصحفيين، وهو بـ”البدلة والكرافت”. وقد بدا حينها لي، وبعدما تجاوز الستين وقادما من بيته بحي “الزمالك” الأرستقراطي الأصيل، على استعداد للتضحية بسلامة جسده وبملابسه الأنيقة وبحريته الشخصية كي يواصل الجهاد من أجل الحريات والحقوق والديمقراطية، وليس فقط بالكلمة والكتابة.

في تحرير “لجنة الحريات”

حين نعود إلى أرشيفات السنوات الذهبية الأربع للجنة الحريات بنقابة الصحفيين بين 2007 و2011، نعلم كيف نجح “عمنا” في تحريرها من القيود والحسابات غير الديمقراطية، وكيف جعلها مثالا يستحق التأريخ والتدريس لنقاباتنا المهنية العربية في الانفتاح على المجتمع وقضاياه وأشواقه إلى التغيير وهموم مختلف طبقاته وشرائحه ومستضعفيه، وبمنزلة ديوان لأصحاب المظالم.

وقتها كانت أكبر القاعات بالنقابة تمتلئ بسائقي التاكسي أو عمال مصنع أو فلاحي قرية أو أبناء حي شعبي ضحايا بطش الشرطة أو إهمال الدولة، يدخلون بيت الصحفيين للمرة الأولى بدعوة من “عمنا”، وتنفتح أمامهم أبوابها المؤصدة العالية بكلمة سر واحدة هي “عبد القدوس”، لعرض مظالمهم ومناقشة الحلول.

وإلى هذه السنوات، استضاف -مقرّرا للجنة الحريات- أول جمعية عمومية لأول نقابة مستقلة (لموظفي الضرائب العقارية)، ومؤتمرا للحد الأدنى للأجور شهد الدعوة إلى حدث “6 إبريل” الكبير في تاريخ مدينة المحلة ومصر بأسرها. وهذا إلى جانب العديد من الفعاليات نصرة لأصحاب الرأي المضطهَدين حتى لو كانوا مبدعين متهمين بالكفر وازدراء الأديان. أما عن دعم نضالات الشعب الفلسطيني والعرب كافة، فحدّث ولا حرج.

انطباعات خاطئة

واجه “عمنا” في مسيرته الطويلة عضوا بمجلس النقابة بين 1985 و2015 انطباعات تبيَّن لي لاحقا أنها غير صحيحة، بل تظلمه سواء بحسن نية وعن خفة أو بسوء وتعمُّد غير برئ، ومن أبرزها:

الانطباع الأول.. يكسب شعبيته بين الصحفيين لمجرد كونه ابن “إحسان عبد القدوس”، وليس لديه إلا المجاملات والعلاقات العامة بدوام المرور على الصحفيين في مكاتبهم للسلام والتهاني بالمناسبات.

والانطباع الثاني.. تتحدد مواقفه بمجلس نقابة الصحفيين بتعليمات “المرشد” و”مكتب إرشاد جماعة الإخوان”.

لكنني سرعان ما تيقنت وغيري من بطلان هذين الاتهامين، ومن واقع المتابعة الممتدة لمواقفه العملية وكتاباته. وحتى في مجرى السياسة والمعارضة، لفت نظري مخالفته مرارا لمنهج الجماعة المحافظ وحساباته مع السلطة و”مبارك”.

في نقد الأحباب

“للأحباب عطر” لا يزول عند محبيهم، ومن حقهم علينا “نقد الأحباب”، مع الاعتذار للأديب “يحيى حقي”. ولأن من أحب عاتب وصارح وانتقد، ولا كمال لإنسان، ألوم “عمنا” تخاذله في الدفاع عن نفسه أمام هذه الانطباعات/الاتهامات غير الحقيقية، ومن أطلقها. ولا أعرف هل تربيته العائلية أورثته خجلا أو ترفعا في مواجهة من يدعى عليه ويأخذ الناس “بالصوت العالي”؟ وكم تمنيت أن يرد بقوة وحسم عن نفسه هذا الأذى والافتراء.

لكن اللوم الأكبر هو ما أظنه فهما قاصرا لعلاقات العمل بين الصحفي ورؤسائه وأصحاب الصحف، وذلك حين يتغلب عند النقابي التخلف عن مفاهيم العمل وحقوقه الحديثة، وتسود الأبوية “البطركية”. وكم من مرة رأيت “عمنا” لا يجد أمام معاناة زميل من اضطهاد، سوى النصح بالصلح، وعلى طريقة “قول لرئيسك كلمتين حلوين”.

وأظن أن هذا الفهم، الذي يتراجع بنا إلى علاقة أرباب الحرف بصبيانها، ناجم عن نشأته في بيئة يجمع فيها الأب وزملاؤه بالمهنة، ومن قبل الجدة، بين سلطة الملكية وكونهم جزءا من قوة العمل الصحفي، فتختلط الأمور.

*****

أتم “عمنا” هذا الأسبوع عامه السابع والسبعين، وما زال يكتب من أجل الحريات والحقوق والناس، وعن والده وجدته وجده وإبداعهم وزمانهم بحب ووفاء، يكتب بانتظام وينشر على وسائل التواصل الاجتماعي “عجايب” و”حكايات” وذكرياته. ينتظره قراؤه، وكأنهم على موعد معه، ولو على البعد وبدون فرصة لقاء.

متعه الله بطول العمر وبالصحة، وبدوام القلم النزيه النظيف اللطيف.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان