الطريق نحو البيت الأبيض (7): عقيدة ترمب

تولي دونالد ترمب رئاسة الولايات المتحدة بين يناير/كانون الثاني 2017 ويناير/كانون الثاني 2021، بعد أن فاز في الانتخابات الرئاسية التي جرت في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 أمام منافسته هيلاري كلينتون، وفي ولايته أصدر استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة 2018، التي من خلالها يمكن الوقوف على أهم ملامح عقيدته الأمنية والعسكرية، خاصة وأنه المرشح الأقوى عن الحزب الجمهوري للفوز في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024 في مواجهة الرئيس الحالي ومرشح الحزب الديمقراطي جو بايدن.
عقيدة ترمب والتوجهات الاستراتيجية العسكرية الأمريكية
تقول استراتيجية ترمب “نحن نخرج من فترة من الضعف على المستوى الاستراتيجي، وندرك أن ميزة التفوق العسكري لدى قواتنا قد بدأت في التآكل. إننا في الحقيقة نواجه اضطرابًا عالميًا متزايدًا، يتسم بتراجع في قواعد النظام الدولي الذي ظل مهيمنًا منذ أمد بعيد، مما أدى إلى خلق بيئة أمنية أكثر تعقيدًا وتقلبًا عن أي بيئة شهدناها من قبل. إن التنافس الاستراتيجي بين الدول، وليس الإرهاب، هو الآن الشاغل الرئيس للأمن القومي للولايات المتحدة”.
ووجود هذه القوة المشتركة الأكثر فتكًا ومرونة وسرعة في الابتكار، إلى جانب مجموعة قوية من الحلفاء والشركاء، “ستضمن المحافظة على النفوذ الأمريكي وتحقيق توازنات للقوة تكون في نهاية المطاف لصالحنا، وتحافظ كذلك على النظام الدولي الحر والمفتوح. وسيوفر وضع قواتنا، وتحالفاتنا، وهيكل الشراكة التي نوفرها، وتحديث وزارة الدفاع – سيوفر- ذلك القدرات والحيوية اللازمة للسيطرة على النزاعات والحفاظ على السلام من خلال القوة”.
وتضيف الاستراتيجية “إن الأضرار التي ستترتب على عدم تنفيذ هذه الإستراتيجية واضحة: سيؤدي الفشل في تحقيق أهدافنا الدفاعية إلى تقليل النفوذ العالمي للولايات المتحدة، وتآكل التماسك في صف الولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وتقليل الوصول إلى الأسواق مما سيؤدي إلى انخفاض معدل الازدهار ومستوى المعيشة في بلادنا”.
ومن دون الاستثمار المستدام المبني على استشراف المستقبل لاستعادة الجاهزية ومستوى التحديث للجيش الأمريكي حتى يكون على مستوى تحديات الحاضر، فسوف تفقد الولايات المتحدة تميزها العسكري بسرعة، وسيترتب على ذلك بقاء القوة المشتركة على وضعها الحالي بأنظمتها القديمة، وتظل دون المستوى المطلوب من أجل الدفاع عن الشعب الأمريكي.
البيئة الإستراتيجية الدولية بين النظام المرن
والنظم المارقة والدول المناوئة
يتمثل التحدي الرئيس أمام ازدهار الولايات المتحدة وأمنها، من وجهة نظر ترمب واستراتيجية العسكرية، في عودة ظهور المنافسة الاستراتيجية الطويلة الأجل من خلال ما تصنفه استراتيجية الأمن القومي على أنها “قوى تطويرية” (قوى تعاود الظهور على ساحة القوة والنفوذ من جديد مثل روسيا والصين)، فقد أصبح من الواضح بشكل كبير أن الصين وروسيا ترغبان في تشكيل عالم يتلاءم مع نموذجهما الاستبدادي، وتستخدمان حق النقض (الفيتو) لصالحهما على القرارات الاقتصادية والدبلوماسية والأمنية للدول الأخرى (وفق النص الرسمي).
كما أن هناك تغيرًا آخر في البيئة الإستراتيجية يتمثل في ظهور نظام دولي مرن، لكنه ضعيف، بعد الحرب العالمية الثانية، ففي العقود التي تلت هزيمة الفاشية في الحرب العالمية الثانية، أنشأت الولايات المتحدة وحلفاؤها وشركاؤها نظامًا دوليًا حرًا ومنفتحًا من أجل حماية أفضل لحريتهم وشعوبهم ضد العدوان والقهر، وعلى الرغم من أن هذا النظام برز بشكل كبير منذ نهاية الحرب الباردة، “فإن شبكة تحالفاتنا وشراكاتنا تظل العمود الفقري للأمن العالمي في هذا النظام، في الوقت الذي تسعى فيه الصين وروسيا إلى تقويض النظام الدولي من داخله من خلال استغلال مميزاته، وفي الوقت نفسه هدم مبادئه والقواعد الحاكمة فيه”.
في المقابل، وكما تنص الاستراتيجية، تعمل الأنظمة المارقة مثل كوريا الشمالية وإيران على زعزعة الاستقرار في مناطقها من خلال السعي الدائم للحصول على أسلحة نووية أو من خلال رعاية الإرهاب، فكوريا الشمالية تريد ضمان بقاء نظام الحكم فيها وزيادة نفوذها، ومن أجل ذلك تسعى لامتلاك مجموعة من الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية والتقليدية وغير التقليدية وتعزيز قدرتها الصاروخية بشكل متصاعد بهدف فرض نفوذها قسريًا على كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة.
وفي الشرق الأوسط، تتنافس إيران مع جيرانها، وتحرص على إيجاد هلال (إيراني) من النفوذ وعدم الاستقرار بينما تطمح إلى الهيمنة على المنطقة من خلال استخدام أنشطة إرهابية ترعاها الدولة، وشبكة متنامية من الوكلاء، وبرنامج صاروخي متنامٍ، من أجل تحقيق أهدافها.
وبجانب الأنظمة المارقة، تظهر الدول المناوئة، التي تُعدّ (وفقًا للاستراتيجية) الجهات الفاعلة الرئيسة على الساحة العالمية في هذا الشأن، ولكن الفاعلين غير الحكوميين أيضًا يمثلون تهديدًا للبيئة الأمنية من خلال اكتسابهم لقدرات متقدمة ومتطورة بشكل متصاعد. فقد تسبب الإرهابيون، والمنظمات الإجرامية العابرة للحدود، وقراصنة الإنترنت وغيرهم من الجهات الفاعلة غير الحكومية الخبيثة –تسببوا- في إحداث تحولات في الشؤون العالمية في ظل تصاعد قدرات الاختراق الجماعي لديهم.
عقيدة ترمب بين طبيعة التنافس الدولي وساحات الصراع الكبرى
تمثل التحديات التي تواجه التفوق العسكري الأمريكي تحولًا آخر في بيئة الأمن العالمية، فعلى مدى عقود من الزمن تمتعت الولايات المتحدة بتفوق وهيمنة غير مسبوقة في مجالات القوة العسكرية كلها، وكما تقول الاستراتيجية “كان يمكننا نشر قواتنا عندما نريد، ويمكننا تجميعها حيث نريد، والقيام بعملياتنا العسكرية بالكيفية التي نريد. أما اليوم، فهناك تنافس معنا في المجالات كلها جوًا وبرًا وبحرًا، وعلى مستوى الفضاء السيبراني كذلك”.
وتضيف: إننا نواجه ساحة للمعارك أكثر فتكًا وإرباكًا، عبر هذه المجالات كلها مجتمعة، بوتيرة متصاعدة وعلى نطاقات ممتدة تبدأ من القتال عن قرب، مرورًا بأنحاء مسارح العمليات جميعها على مستوى العالم، ووصولًا إلى التحديات على أرض الوطن، ويسعى بعض المنافسين والخصوم إلى تطوير استهدافاتهم لشبكتنا القتالية والمفاهيم التشغيلية، ويستخدمون كذلك مجالات أخرى من المنافسة ليست بالضرورة الإعلان المباشر للحرب من أجل تحقيق غاياتهم على سبيل المثال، استخدام حرب المعلومات، وسياسة الحرب بالوكالة بطريقة غامضة يتم إنكار وجودها باستمرار، أو ممارسة التخريب، وإذا لم يتم التعامل مع هذه الاتجاهات جميعًا، فسوف تشكل تحديًا لقدرتنا على ردع العدوان”.
كما تتأثر البيئة الأمنية بالتقدم التكنولوجي السريع والطابع المتغير للحرب. إن الاتجاه لتطوير تكنولوجيات جديدة للحرب من جانب هذه القوى يسير بلا هوادة، ويمتد إلى عدد أكبر من الجهات الفاعلة التي تواجه تحفظات أقل في إمكانية ولوجها إلى هذا المجال، ويتحرك بسرعة متزايدة، وتشمل التقنيات الجديدة: الحوسبة المتقدمة، وتحليلات “البيانات الكبيرة”، والذكاء الاصطناعي، والاستقلالية الذاتية، وعلم الروبوتات، والطاقة الموجهة، وسرعة الصوت، والتكنولوجيا الحيوية، وهي التقنيات ذاتها التي تضمن لنا أن نكون قادرين على خوض الحروب في المستقبل وتحقيق النصر فيها.
كما أن التكنولوجيا التجارية الجديدة تسهم في إحداث التغييرات للمجتمع، بما في ذلك طبيعة الحروب، ولأن العديد من التطورات التكنولوجية تأتي من القطاع التجاري، فإن ذلك يعني أن منافسي الولايات المتحدة من الدول وكذلك الجهات الفاعلة الأخرى غير الحكومية ستتمكن من الوصول إليها، وهي حقيقة تهدد بتآكل التفوق التقليدي الذي اعتادت عليه أمتنا، ولذلك سيتطلب الحفاظ على التميز التكنولوجي لوزارة الدفاع تغييرات في ثقافة الصناعة، ومصادر الاستثمار، والحماية عبر “قاعدة الابتكار المرتبط بالأمن الوطني”.
عقيدة ترمب: 11 هدفًا استراتيجيًا لوزارة الدفاع
نصت استراتيجية الأمن القومي التي أقرها ترمب، على أن “وزارة الدفاع ستكون دائمًا على أُهبة الاستعداد للدفاع عن الوطن، وستبقى القوة العسكرية الأبرز في العالم، وستضمن بقاء موازين القوى في صالحنا، وستقوم بتقديم نظام دولي أكثر ملاءمة لأمننا وازدهارنا، وستواصل وزارة الدفاع جهودها لردع ومكافحة أنظمة مارقة مثل كوريا الشمالية وإيران، وهزيمة التهديدات الإرهابية للولايات المتحدة، لتنتقل إلى نهج يضمن بشكل أكبر استدامة الموارد”.
وفي هذا السياق تضمنت الاستراتيجية 11 هدفًا استراتيجيًا جاءت على النحو التالي: الدفاع عن الوطن ضد أي هجوم. دعم التفوق العسكري للقوة الأمريكية المشتركة، سواء على مستوى العالم أو في المناطق الرئيسة للصراع. ردع الأعداء من القيام بأي عدوان على مصالحنا الحيوية. تمكين النظراء داخل مختلف المؤسسات الأمريكية من تعزيز نفوذ الولايات المتحدة ومصالحها. الحفاظ على توازنات إقليمية لصالح أمريكا في منطقة الهندي-الأطلسي وأوروبا والشرق الأوسط ونصف الكرة الغربي.
وكذلك الدفاع عن الحلفاء من أي عدوان عسكري ودعم الشركاء ضد أي شكل من أشكال القسر، وتقاسم المسؤوليات عن الدفاع المشترك بشكل عادل. إعاقة أو منع أو ردع الدول المعادية والجهات الفاعلة غير التابعة للدول للحيلولة دون حصولها على أسلحة الدمار الشامل أو نشرها أو استخدامها. منع الإرهابيين من توجيه أو دعم العمليات الخارجية ضد أرض الوطن داخل الولايات المتحدة، أو ضد مواطنينا وحلفائنا وشركائنا في الخارج.
هذا بجانب ضمان بقاء النطاقات المشتركة مفتوحة ومجانية. توفير الأداء باستمرار مع القدرة على تحمل التكاليف والسرعة والقيام بتغيير طريقة التفكير والثقافة وأنظمة الإدارة في وزارة الدفاع، وإنشاء قاعدة الابتكار في مجال الأمن الوطني، بحيث لا يكون لها نظير في القرن 21، تقوم بدعم العمليات التي تنفذها وزارة الدفاع وتضمن استمرار الأمن والقدرة المالية.
ماذا بعد..؟
ومن هذه النصوص وغيرها، وكما جاءت ممارسات ترمب في ولايته الأولى، 2017 – 2021، كاشفة عن الكثير من توجهاته، يمكن القول إنه في حال عودة ترمب للحكم بعد انتخابات 2024، ستشهد عقيدته السياسية والأمنية تحولات جذرية نحو مزيد من الإفراط باستخدام القوة في الداخل والخارج، أمام ما يعتقد أنه تعرض له من مؤامرة وانتقام سياسي وقانوني داخلي، وأمام ما يراه تقصيرًا من إدارة بايدن في ملفات السياسة الخارجية، وما يتطلبه ذلك، من وجهة نظره، من سياسات أكثر حزمًا وردعًا، بل وبطشًا إن تطلب الأمر ذلك.