أسرى إسرائيليون جدد.. نتنياهو إلى مزبلة التاريخ

مع إعلان المتحدث باسم كتائب القسّام، الجناح العسكري لحركة “حماس” أبو عبيدة، في كلمة مصورة مساء أمس السبت، عن العملية المركَّبة، التي استدرج رجال المقاومة فيها قوة صهيونية إلى أحد الأنفاق بمخيم جباليا، فأمعنوا فيهم قتلًا وجرحوا عددًا وأسروا عددًا آخر، فلم ينجُ منهم أحد، كما غنموا جميع التجهيزات والعتاد الذي كان جنود الاحتلال مدججين به، تدخل الحرب في غزة مرحلة مفصلية، لن يكون ما بعدها أبدًا، كما كان قبلها.
صحيح أن القائد القسّامي لم يكشف عن عدد الأسرى، وهو المتغير الأبرز والأهم، بخاصة لكونها المرة الأولى التي يؤسر فيها إسرائيليون منذ بداية الاجتياح البري، لكن حتى لو كانت الحصيلة أسيرًا واحدًا، فإن الفضيحة مدوية والخيبة ثقيلة والتداعيات بالغة التشعب والتداخل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفأر يثير الذعر في “بي بي سي” ويطيح بنجم برشلونة!
الحج.. في زمن انفلات الأسعار!
الهواء الملوث.. عدو خفي لعظام النساء بعد الستين
هناك مثل شعبي خفيف الظل، وينتمي إلى الموروث الثقافي للصعيد المصري، يقول “راحت تأخذ ثأر أبوها رجعت حامل”، ويُضرب للاستهزاء بالفاشلين حين يدَّعون قدرتهم على اجتراح الصعاب، فيحرزون مزيدًا من الخيبة، وهناك مقولة شائعة بأن الخوف من الفشل لا بد أن يؤدي إليه، وهذا ما حدث حرفيًّا.
سقوط ادعاءات التفوق الصهيوني
هل ثمة فشل عسكري واستخباراتي أفدح مما حدث؟ وهل ثمة انكشاف تاريخي لهشاشة إسرائيل أوضح مما كان؟
منذ اتفاقية كامب ديفيد قبل 46 عامًا، هيمن على أدبيات السياسة العربية، خطاب يدَّعي الموضوعية، ويتمنطق بحتمية التعامل مع الواقع كما هو، بعيدًا عن الأماني، فالعرب لن يتقدموا خطوة ما لم يكفوا عن “خطاب الستينيات”، وهتافات “سنرمي إسرائيل في البحر” التي انتهت إلى النكسة.
كان أصحاب هذا الخطاب وحواريوه، يتشدَّقون على سبيل تبريره، بأن إسرائيل لا تُقهر، عصيَّةٌ على الهزيمة، محصَّنة ضد الانكسار، ذلك أن العقلية اليهودية بالغة التفوق، تحسب حساب كل خطوة، وتضع السيناريوهات المستقبلية المحكمة، فتصدق في كل مرة بدرجة مدهشة مبهرة.
لكن ما حدث أن الإسرائيليين الذين طالما رآهم “الموضوعيون العرب” عباقرةً جهابذة، كانوا في مهمة عسكرية لتحرير الرهائن على الأغلب، في سياق تنفيذ أهداف العدوان التي لا يفتأ نتنياهو وزمرته في حكومته الإرهابية يؤكدون تمسكهم بتحقيقها، فإذا بالمقاومة تأسر المزيد منهم، والمؤكد أن شراذم تلك القوة الصهيونية التي انتهت إلى قتيل وجريح وأسير، كانوا إذ يواجهون المقاومين الذين نصروا الله فنصرهم، يشعرون في أعماقهم بالخوف من الفشل ففشلوا.
الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، يرصد في كتابه “انهيار إسرائيل من الداخل”، ذرائع أولئك “الموضوعيين”، فيقرر أن أبرزها يتمثل في تحقق مقولة الأب الروحي للحركة الصهيونية “تيودور هرتزل”، بأن إسرائيل ستؤسس دولتها في فلسطين بعد خمسين عامًا، إذ يسهبون في ضرب الأماثيل على التفوق الإسرائيلي والتقهقر العربي، حتى إن أديبنا الراحل توفيق الحكيم، مضى يقول إن الأمة العربية تحتاج إلى عقلية إسرائيلية لإدارة ثرواتها النفطية، “كأنها أمة بلا عقول”، بل إنه ذهب أكثر إلى شتم بني جلدته ووصفهم بالأقزام.
نبوءة هرتزل: ألمانيا ترعى المشروع الصهيوني
وغني عن البيان، أن كلامًا كهذا لا يصدر إلا عن “منكسر ذاتيًّا”، يستصغر شأن نفسه، إلى حد استمراء الهزيمة، فهذه العقلية اليهودية “الفذة الخارقة”، قد أثبتت هزالها وتهافتها، في محطات تاريخية مهمة، حتى إن هرتزل ذاته كان قد تنبأ في يومياته، بأن “ألمانيا العظيمة سترعى المشروع الصهيوني”، فإذا بالنازية تفتك باليهود، وترمي بهم في أفران الغاز، وفق ما كتب المسيري ردًّا على أدعياء الموضوعية.
ولم يقف الفشل الإسرائيلي عند هذه النبوءة، فالواقع أن أولئك الصهاينة خارقي الذكاء سقطوا في أخطاء استخباراتية فادحة على مدى تاريخ الصراع، فمن حرب السادس من أكتوبر/تشرين الثاني 1973، مرورًا بالهزيمة في جنوبي لبنان، وصولًا إلى طوفان الأقصى.
فشل يخرج من رحم فشل، وخيبة تتناسل من خيبة
إن الدولة التي تطنطن بقدرتها على سحق الجيوش العربية مجتمعةً، وتزدهي بامتلاكها أقوى جهاز استخبارات في العالم، محض “فقاعة صابونية” سرعان ما “تُفرقِع” لدى لمسها بالأنامل.
ما من جديد في القول بأن المقاومة بإمكاناتها الشديدة البدائية، بهرت العالم بخبرائه العسكريين والاستراتيجيين، ونخبه السياسية وكذلك شعوبه، حين شنت يوم السابع من أكتوبر 2023، هجومًا بطوليًّا، من الجو والبر والبحر، حتى غدا الجيش الذي لا يُقهر أمامها هشيمًا تذروه الرياح.
وما من شك في أن الصمود الأسطوري في حين يكاد العدوان الإجرامي على غزة يتجاوز شهره الثامن، يؤكد بدوره أن تقديرات أولئك “العرب الموضوعيين” لعبقرية الإسرائيليين هي أساطير، إما تنبعث عن نفوس استطابت مذاق الضعة والهوان، واستمرأت مذلة الهزيمة، وإما أن وراءها أغراضًا أو مكاسب “مدنسة” يخشون افتضاح أمرها.
ليس الإسرائيليون متفوقين إذن، وليسوا أفذاذًا خارقين، بل إنهم إلى الغباء أقرب، وإلى الضعف أدنى، وإلَّا فكيف لم يحرزوا مثقال ذرة من أهدافهم العسكرية بعد نحو ثمانية أشهر؟ على الرغم من أنهم في واقع الأمر يحاربون شعبًا أعزل إلا من إرادته، محاصرًا في محيطه الجغرافي الضيق برًّا وبحرًا وجوًّا، ومقاوموه الذين تُظهرهم المواد الفيلمية المصورة وهم ينتعلون “شباشب بلاستيكية”، ليسوا إلا ميليشيات محدودة التسليح أو بالأحرى “معدومة التسليح”، قياسًا بالترسانة الإسرائيلية التي رفدتها المساعدات الأمريكية بسخاء منذ بدء العدوان.
في لحظة الطوفان المباغتة المدهشة، قيل على نطاق بحثي واستراتيجي واسع، إن معادلات الصراع في فلسطين قد تغيَّرت إلى غير رجعة، فأبرز ثمار العملية يكمن في بعث الثقة العربية في القدرة على الفعل.
وبعد عملية السبت البالغة الاستثنائية، وذات التأثير “الزلزالي” على الداخل الإسرائيلي رسميًّا وشعبيًّا، فإن تلك المقولة تكتسب أبعادًا أعمق، وتبلغ آفاقًا أوسع مما يمكن تصوره.
على مستوى الرأس السياسي للاحتلال، فإن تدحرج نتنياهو إلى قعر مزبلة التاريخ، قد صار حتمًا مقضيًّا، وغدا قاب قوسين أو أدنى، فالحروب الخاسرة تنتهي بإسقاط الأنظمة السياسية التي لم تنجح في إدارتها، في حين لم يعد أمام إسرائيل من مخرج ينقذها من متاهات غزة وأنفاقها، سوى الخضوع للتفاوض بشروط حماس.
أما على مستوى القاعدة الشعبية في الأراضي المحتلة، فإن المستوطنين الذين حقنتهم الدعاية الصهيونية، بأن جيشهم سيضمن لهم الأمن المنشود في أرض الميعاد، قد أيقنوا أن هذا الجيش “راح يأخذ الثأر فرجع حامل”.