ليلة القبض على الوزير.. تطهير ما بعد الكارثة!

وزير الزارعة والشؤون الريفية تانغ رين جيان

أزاح الحزب الشيوعي الصيني وزير الزارعة والشؤون الريفية تانغ رين جيان (62 عاما) من منصبه الاثنين الماضي، بعد يومين من اتهامه بارتكاب انتهاكات خطيرة للقانون.

وأصدرت اللجنة المركزية لفحص الانضباط بيانا السبت 18 مايو، يذكر أن عضو اللجنة المركزية للحزب -المكونة من 20 شخصا تدير الصين – يخضع للتحقيق ومراجعة تأديبية معه بتهمة “انتهاك الانضباط” وهو اللفظ الناعم، الذي تطلقه السلطة على جرائم فاسد يرتكبها كبار القادة رفيعي المستوى.

أزالت السلطات صور الوزير من قائمة كبار موظفي الدولة، من موقع وزارته، بعد ساعات من البيان، بما يعني أنه أصبح رهينة السجن بقرار اللجنة السرية المتمتعة بسلطات تحقيق واسعة، لاحتجازه عدة أشهر بمعزل عن العالم.

تصدرت الصحف الرسمية آخر صور علنية للوزير يوم 15 مايو الجاري، أثناء رئاسته مؤتمر” المواهب الريفية والإبداع في الصناعة الزراعية وتدريب المزارعين” بإقليم” شنشي” شمال غربي البلاد.

مستعمرات “تانغ”

تولى “تانغ” مناصب عديدة بالوزارة، بمقاطعة قوانغشي الجنوبية الفقيرة، وحاكما لمقاطعة” قانسو” 2017-2020، ذات الأغلبية المسلمة من أصول صينية الــ”هوي”. قاد حملة فاشلة لنقل مئات الآلاف من القوميين المتعصبين” الهان” لزراعة الصحراء في المناطق المؤدية إلى منطقة شينجينانغ (تركستان الشرقية) بهدف تغيير التركيبة السكانية بمناطق المسلمين، وجعلهم أقلية بالمناطق التي يعيشون بها منذ قرون.

اندفعت الدولة وراء مشروعه “القومي”، بمقاطعة قانسو، بمنح المزارعين المغامرين قروضا كبيرة، مع تدبير ميزانيات هائلة للصرف على مشروعه لزراعة الأرز والذرة والفول الصويا بمناطق صحراوية شديدة الملوحة.

أبلغ موظفون حكوميون وسائل الإعلام أن تانغ “كان يريد زراعة الأراضي الجبلية في قوانغشي وشيحة المياه بـ” قانسو”، بينما أزال مساحات خضراء واسعة وغابات بمحميات طبيعية مطيرة، بمدينة ” تشنغدو” عاصمة مقاطعة ” سيتشوان” بما ألحق بالمزارعين خسائر فادحة.

تجاهلت السلطة صرخات الناس، وسارت وراء وزير يجيد الدعاية لنفسه، وإظهاره الولاء المطلق لرئيس يحلم بأن يظل “وعاء الأرز” متوافرا للشعب، دون الحاجة إلى استيراده، وبما يمنع مجاعات عانى منها تاريخيا، هددت النظام.

تنكرت السلطة لصرخات شاهدنا المئات منها، مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي، وبدلا من إرسال لجان تقدر خسائر المنكوبين عينت “تانغ” وزير للزراعة ديسمبر 2020.

اعتبر النظام أن حملة الأمن الغذائي التي قادها “تانغ” ناجحة، رغم تعرضها لانتكاسة خطيرة أدت إلى إفلاس من غامروا بما لديهم من مال في شراء الأراضي والمعدات، وبعد سنوات من محاولة استعمار الصحاري، فوجئوا بأنهم يغوصون ومزارعهم في بحر من الرمال المتحركة التي لا تهدأ.

حرب النمور والذباب

يضع “شي” قضية الأمن الغذائي” خط أحمر” لشعب يمثل 20٪ من سكان العالم، يمتلك 10٪ فقط من الأراضي الصالحة للزراعة وشحا بالموارد المائية وتغيرا بعادات الاستهلاك جعلته أكثر شراهة في طلب كافة المواد الغذائية.

توظف مجموعات الفساد الأزمات العامة، ولهفة الرئيس على تحقيق الاكتفاء الذاتي من كل شيء في صناعة واقع بعيد عن الحقيقة.

منذ توليه السلطة نوفمبر 2012، يشن الرئيس حربا على الفساد والبيروقراطية، لجسر الهوة الفاصلة بين الشعب ورجال السلطة. قاد حربا على ” النمور والذباب” مستهدفا كبار وصغار المسؤولين الفاسدين، أسفرت عن ضبط 4.7 مليون شخص، وتحرير 4.4 مليون قضية فساد، بتهم سرقة المال العام أو ابتزاز رجال الأعمال والمواطنين وتهريب الأموال للخارج، والحصول على رشى جنسية وهدايا فاخرة.

تجري إدارة الكسب غير المشروع حاليا، تحقيقات مع 87 مسؤولا، منهم 30 مسؤولا كبيرا -وفقا لتقديرات رسمية- صدرت ضدهم اتهامات مطلع الشهر، من بينهم رئيس بنك الصين السابق ليو ليانغ وتسوي ماو هو المدير السابق للإدارة الوطنية للشئون الدينية ونائب عمدة بيجين السابق جاو بينغ ووزير العدل السابق تانغ يي جون ونائبه ليو تشي تشيانغ ورئيس لجنة الألعاب الأولمبية الشتوية (بيجين 2022) ني هوي زونغ، وموظفين بمجموعة” على بابا” المالية بتهمة التلاعب بأموال العملاء بالبورصة، المقبوض عليهم مطلع إبريل الماضي.

لم تسفر الحملة ضد الفساد عن تغير ملموس بمكانة الصين بمؤشر منظمة الشفافية الدولية منذ 2013، والمرصودة عند مستويات متراجعة 3 سنوات متوالية للمركز 87 من بين 180 دولة.

بدأ الدعم الشعبي الواسع للحملة يتلاشى 2020، مدفوعا برفض المواطنين سياسة القمع الأمني المتبعة أثناء انتشار وباء كوفيد 19. زادت المعارضة الشعبية، مع استغلال النظام الحملة لملاحقة قادة أمنيين عسكريين وأصحاب الرأي المشهورين على وسائل التواصل الاجتماعي، ومحو صفحاتهم ووضعهم بالسجون، دون محاكمة أو إعلان إلا بعد وفاتهم أو فترة زمنية طويلة، وظهورهم أمام محاكم تدار عبر أجهزة الشرطة والمخابرات وموظفين بالدولة، بالمخالفة للمحاكمات المتبعة عالميا.

تحتجز السلطات -في أكبر عمليات للتطهير السياسي- وزير العدل السابق فو تشنغ هوا ونائب وزير الأمن العام سون ليجون وزمرة واسعة من السياسيين وقادة الشرطة، منذ سبتمبر 2022، بتهمة عدم الولاء للرئيس، أعقبها خروج مظاهرات واسعة في أكتوبر 2022، أجبرت الرئيس على فك الحصار الذي فرضه أثناء كورونا.

مكر السلطة والثعالب

أطلق الحزب حملة: “صيد الثعالب” للقبض على الفاسدين الفارين بالخارج، شملت 90 ألف قضية، من 2014-2021 -وفقا لتقديرات رسمية- تمكنت من جلب 1624متهما من 120 دولة.

باسم “حماية الشعب” وظفت الحملة في أبشع عمليات للتهجير القسري للمعارضين السياسيين بالخارج، خاصة من مسلمي الإيغور المقيمين بالدول العربية وإيران والبوذيين في تايلاند وفيتنام، وإقامة مراكز للشرطة السرية داخل الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا لملاحقة المعارضين، وإبلاغ الإنتربول بقائمة متجددة، تتهمهم بارتكابهم جرائم جنائية، لمنع تنقلهم بين الدول وتسليمهم لبيجين بشتى السبل.

في كتاب صدر بواشنطن، الأسبوع الماضي، بعنوان” حرب الدعاية الجديدة” للكاتبة” آن أبلباوم” تظهر أن الأحزاب الشيوعية تظل ملهمة لقادة الأنظمة الاستبدادية التي تجيد الدعاية لتحويل الواقع السيئ إلى لامع ومثالي، لدرجة تقنع الآخرين بأن غيرهم يتجه نحو الموت.

تشرح الكاتبة كيف تتجاهل الأنظمة الاستبدادية رأي الشعب في أمور تخصهم، إلى أن تقع كوراث لا يمكن تداركها، وتترك مسؤوليها يلفقون البيانات والمعلومات، دون أن تسمح للرأي العام بتقصي الحقائق عبر وسائل الإعلام ونظم ديمقراطية، تسعى إلى هدمها بشتى السبل.

تذكرنا الكاتبة بما يحدث في بلادنا من تلفيق لواقع يستهدف تغييب العقول وتزيف الحقائق، وتكذيب ما يراه الناس بأعينهم من غلاء وفساد، لا يمكنهم الفكاك منه أو الحد من تداعياته قبل أن تحدث كارثة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان