هواجس إسرائيل

بعد مقتل جندي مصري وإصابة آخرين برصاص إسرائيلي على بوابة الحدود في رفح، لا يمكن لعاقل أن يصدق الرواية الإسرائيلية التي تزعم أن ذلك جاء ردًّا على رصاص جنود مصريين؛ وذلك لأنه لا توجد إصابات في الجانب الإسرائيلي من جهة، ومن جهة أخرى فإن مصر لم تردد الرواية الإسرائيلية، فضلًا عن أننا اعتدنا تجاوزات الجانب الإسرائيلي -على أقل تقدير- منذ بدء عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر، بجانب المغالطات الرسمية في الاتهامات والروايات التي أصبحت تخضع لتلاعب الأجهزة العسكرية، وتزامنت مع تضييق إعلامي منقطع النظير على سرد الحقيقة.
بدا واضحًا من خلال تلك الواقعة، أن عملية استدراج مصر مستمرة، وبالتالي فإن عملية رفح من المتوقع أنها لن تكون الأخيرة في إطار مخطط واسع من التحرش، كشف عنه ذلك التجاوز الأكبر باحتلال المعبر ومحور فيلادلفيا في آن واحد، من دون النظر إلى اعتبارات الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين، أو اعتبارات العلاقات الثنائية المتوترة أصلًا، أو حتى اعتبارات الردود التي يمكن أن تصدر عن الجانب المصري سياسيًّا وأمنيًّا وتجاريًّا، وحتى عسكريًّا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsسعد الهلالي والبحث عن الفتاوى الشاذة
قانون التشافي الكوني: جبر الأضرار وتحقيق السلام الداخلي!
التنين الصيني يستعد لمواجهة النسر الأمريكي!
كل المؤشرات منذ البداية تؤكد، أن مخطط التحرش والاستدراج ليس إسرائيليًّا خالصًا، فهو يمر بأطراف أخرى، الولايات المتحدة الأمريكية والغرب تحديدًا، وذلك لأننا لم نسمع أي استنكار، أو حتى تعليق يتناسب مع الحدث، أو اتجاه تلك الواقعة التي كان يجب، بحسابات المنطق، التوقف أمامها بقوة، ضمانًا لعدم تكرارها، وذلك لأن اتساع الصراع على هذه الجبهة تحديدًا يعني الكثير بالحسابات العسكرية، وهو ما تعيه جميع الأطراف المباشرة وغير المباشرة، وبالتالي فإن أي صمت، معناه الموافقة الضمنية على ما جرى ويجري، لحسابات تمت دراستها جيدًا، بل ودراسة أبعادها المستقبلية.
الحسابات الخطأ
على الجانب الإسرائيلي، نحن أمام كيان غاصب وغاضب في الوقت نفسه، يبحث عن طوق نجاة من المحاكمة والسجن، لأسباب فساد وتربح، وأسباب إخفاق وخسارة عسكرية في آن واحد، وهو ما قد يجده على الجبهة المصرية، حسبما تهيئ له هواجسه، وحسبما يهيئ له داعموه، بعد أن فشل على كل الجبهات، من غزة إلى لبنان، وحتى مع إيران واليمن، فضلًا عن الفشل السياسي من أقصى العالم إلى أقصاه، في العواصم والمنظمات والهيئات، كما في المحاكم الدولية الجنائية، وهو ما يجعل من حساباته الخاطئة أمرًا طبيعيًّا في مثل هذه الحالة، امتدادًا لسلسلة واضحة من الفشل.
على الجانب الأمريكي ودول الاستعمار الغربي، يخطئ من يظن صدقًا أو خيرًا في كل التصريحات التي سمعناها من واشنطن ومعظم عواصم الغرب منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي حتى الآن، خصوصا تلك التي تتعلق بعدم الرغبة في توسيع رقعة الصراع، والحفاظ على أرواح المدنيين، واستنكار قتل الأطفال والنساء، وضرورة إدخال المساعدات الإنسانية، إلى غير ذلك مما يتناقض مع الأحداث على أرض الواقع؛ لأن كل السلاح المستخدم في قتل أكثر من 50 ألف فلسطيني حتى الآن (إذا أضفنا من هم تحت الأنقاض) هو سلاح أمريكي غربي، وكل الدعم السياسي لإسرائيل في المحافل والمحاكم الدولية، هو دعم أمريكي غربي، وهو ما يعني أن التحرش الإسرائيلي بالجبهة المصرية لن يخرج أبدًا عن كونه تنفيذًا لتوجيهات.
تحدثتُ مع أحد العسكريين المصريين السابقين في هذه القضية فقال: من الخطأ أن يملي عليك الخصم تاريخ المعركة، خصوصًا إذا لم تكن مستعدًّا لها، ولأن أمر الولايات المتحدة والغرب هنا مرتبط بحسابات تتعلق بصراع النفوذ مع كل من الصين وروسيا بشكل خاص، وملاحظات حول دور مصر في هذا الشأن بالمنطقة، وتقاربها الواضح مع كل من موسكو وبكين، فهم مستعدون طوال الوقت لإمداد إسرائيل بكل أنواع السلاح، بل والدخول إلى جانبها مباشرة في الحرب إذا لزم الأمر، وهو ما يوجب على مصر تفويت الفرصة، على الرغم من خطورة ما يجري على الجبهة الشرقية في قطاع غزة، وفي فلسطين كلها، إلا إذا كُتِب أو فُرض علينا القتال، فلا مفر إذن.
شكوك حول الميناء
من هنا، فإننا لا نستطيع النظر من دون ريبة إلى الميناء البحري الذي نفذته الولايات المتحدة على شاطئ غزة، بالقرب من الحدود المصرية، بعد أن تحول فجأة من رصيف عائم لدواعٍ إنسانية كما هو معلن، إلى ما يشبه القاعدة العسكرية، بعد تزويده بمنظومة الدفاع الجوي (C- RAM) إضافة إلى نظام (M -LIDS) لمواجهة المسيّرات، وهو الأمر الذي يثير الكثير من التحفظات والشكوك حول الهدف من وجود الميناء أصلًا، دون تشاور مع أصحاب الشأن الفلسطينيين، أو حتى مع الدول ذات الصلة، وفي مقدمتها مصر.
ومع كل هذه الملابسات، يجب أن نضع في الاعتبار، أن الاعتراض المصري على الوجود العسكري الإسرائيلي، سواء بالمعبر أو المحور، لم يجد آذانًا صاغية لدى الجانب الإسرائيلي، ولا ضغوطًا أمريكية غربية في هذا الشأن، مع ملاحظة أن الإعلان الأمريكي عن الانتهاء من إنشاء الميناء، جاء بالتزامن مع اجتياح قوات الاحتلال للمحور والمعبر، بما يشير إلى تنسيق واضح، وهو ما دعا مصر إلى إغلاق بوابة معبر رفح على الفور، على اعتبار أنها ترفض التعامل مع نظام الاحتلال بصيغة الأمر الواقع، وربما إدراكًا من مصر لخطورة ما يتم التخطيط له برًّا وبحرًا.
يبقى التأكيد على أن الأوضاع بشكلها الحالي، قابلة لكل الاحتمالات بين لحظة وأخرى، ما دام الكيان الصهيوني يسعى للتصعيد، على الرغم من رباطة جأش الجانب المصري، التي تصطدم بالضغوط الشعبية، البالغة الوضوح في الشارع وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص، في أعقاب استشهاد جندي أو إصابة ضابط، أو حتى أنباء إطلاق نار دون وقوع إصابات؛ وذلك لأن اتفاقيات كامب ديفيد، كغيرها من الاتفاقيات، أو حتى التصريحات التي تتحدث عن سلام دافئ، أو تعاون أمني، أو أي شيء من هذا القبيل، لم تغير شيئًا في العقيدة الشعبية المصرية اتجاه إسرائيل، ككيان احتلال شيطاني، حتى وإن تغيرت العقيدة في أوساط بعض المثقفين، أو إن شئت قُل: المتصهينين.