الحج الأكبر والتحديات الكبرى
في الكتاب العزيز والسنة المشرّفة ورد مصطلح (يوم الحج الأكبر)، والمراد به على الراجح يوم النحر، أما مصطلح (الحج الأكبر) فقد يراد به حجة الوداع، وقد يراد به حج أبي بكر بالناس، كما يراد به -وهو المقصود هنا- الحج على وجه العموم، تمييزًا له عن الحج الأصغر وهو العمرة، وأما التحديات الكبرى فهي هذه التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم، بسبب هوانها وتحكم الأعداء في مصيرها، فهل يمنحنا الحج من الدوافع والروافع ما يمكننا من مواجهة هذه التحديات كلها؟
سرّ القوة الخارقة
من فوق المسجد الحرام قم بإلقاء نظرة على مشهد الطواف، فإن لم تكن هناك فتحيّن لحظة صعود (الزوم) ليلتقط صورة حيّة للمشهد من عَلٍ، فإن كانت نظرتك ثاقبة فسترى الأمة الإسلامية كلها قد تلخصت في هذا المشهد المهيب، ولم لا؟ أليس هؤلاء الحجيج هم في الحقيقة ممثلو الأمة بأسرها لدى بيت الله؟ ألم يصفهم الحديث الشريف بأنهم وفد الله؟ فإذا استحضرت في هذا الموقف صورة المجموعات المتماسكة في الكون كله من الذرة إلى المجرة، أيقنت أن طواف الحجيج في اتجاه واحد مشدودين جميعًا إلى قطب واحد، في الاتجاه ذاته الذي تلتزم به المجموعات الكونية جميعها بلا فرق بين صغير مُتناهٍ في الصغر وكبير مُتناهٍ في الكبر.. أيقنت أن هذا الطواف يكشف عن سرّ القوة الخارقة لهذه الأمة، وأن السرّ في تماسك الكون وقوته وانتظامه وإحكامه وجماله وجلاله هو ذاته السرّ الذي يجعل هذه الأمة مُحْكَمةَ البناء عصيةً على الإفناء، إنه مشهد يتجسد فيه أمران جليلان لا قيام للأمة ولا دوام لها إلا بهما: الاتباع والاجتماع، اتباع المنهج الربانيّ والاجتماع عليه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}، فمتى يتحقق للأمة هذا الوضع العبقريّ؟ متى يصبح سيرها في اتجاه واحد مشدودة إلى قطب واحد؟ لتكون باجتماعها قوة وباتباعها قدوة، ويتحقق لها بالجمع بين القوة والقدوة التمكين الذي يخرق القوانين.
ضبط بوصلة الصراع
لا مبرر لما يجري في الأمة من تدافع وتصاول يُسْلِمُ غالبًا إلى تهارج وتقاتل، لا مبرر لذلك إلا أنّ بوصلة الصراع اختلت وانعكست، فصار اللسان والسِّنان مسلولين على الأولياء مغمودين عن الأعداء، وبدلًا من إخراج طاقة الصراع والتدافع في اتجاه دفع العدوان عن أهل الإيمان تمّ إخراجها في تقطيع الأرحام وتمزيق شمل أهل الإسلام، وهنا يأتي دور الشعيرة العظيمة التي يغفل الناس عن مقصدها وحكمتها، فعَدُوّنا الذي يستحق أن نرميه بما في يدنا هو الشيطان وما يصنعه الشيطان من رموز الطغيان وكيانات البطش والعدوان، أما آن للمسلمين أن يدركوا أن طاقاتهم مهدرة، بل ومستثمرة في تمزيق جسد الأمة وتفتيت قواها؟ أما آن لنا جميعًا أن نوفر طاقة الصراع والتدافع لما أمرنا الله به من مجاهدة أعدائه؟ أم أننا نأبى إلا أن نكون تطبيقًا عكسيًّا لمقتضى قوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ}.
هل سألت نفسك يومًا هذا السؤال: إذا كانت هاجر قد سعت بين الصفا والمروة بحثًا عن الماء، ففيم سعي الحجيج اليوم وهم في رواء؟ لا يوجد لهذا السؤال إلا إجابة واحدة، مفادها أننا أمّة تترسم خطا الأولين من الحنفاء وتقتفي أثر السابقين من الأولياء، وأننا كنّا وما زلنا مستغنين مكتفين بما في عمق ثقافتنا من رموز فاعلة وقدوات مؤثرة، وأننا بهذا الاقتداء وهذا الاكتفاء مستقلون عقديًّا وقيميًّا وتشريعيًّا وثقافيًّا، نستفيد من كل جديد في العلم والتقنية وأدوات النهوض، أما في كل ما يتعلق بالمنهج فنحن نعطي ونمنح، فإن لم يأخذ الخلق منّا فلا أقلّ من الاكتفاء والاستغناء، ولا أقلّ من الاستقلال الذي يصبغنا بصبغة الإسلام: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ}، وهذا ولا ريب من أكبر عوامل القدرة على مواجهة التحديات، لذلك وجدنا الأمم التي نهضت هي الأمم التي حافظت على هوياتها، ولم تدخل بثقافتها تحت هيمنة الآخرين، وجدنا كذلك العقلاء الناصحين لأممهم يبالغون في التحرز من خداع المصطلحات، ويعدّون ذلك التحرز جزءًا لا يتجزأ من مقومات الصراع.
لو لم يكن من معنى الوقوف بعرفات إلا الامتثال لكان ذلك كافيًا لأهل الاعتدال، لكنّ هذا الامتثال ذو طبيعة متعدية، فهو ينتقل بالمؤمن من وقوفه حيث أوقفه الشرع في عرصات عرفة إلى الوقوف حيث يوقفه الشرع في كل فجّ يسلكه وكل سبيل يطرقه، فإن القرآن يدفع المؤمن لينطلق في كل اتجاه، عابدًا ومجاهدًا وفاتحًا للبلاد وهاديًا للعباد ومبشرًا ومنذرًا في كل واد وناد، وطالبًا للعلم سالكًا سبل التقدم والرشاد، وهو في انطلاقته هذه قد يغرّه علْمُه وبيانُه أو يغريه سيفُهُ وسِنانُه، فيقع التجاوز لحدود الله، فلا بدّ إذَنْ -كما تعلّم كيف يكون منطلقًا وثّابًا مقتحمًا غلَّابًا- أن يتعلم كيف يكون وقَّافًا عند حدود الله لا يتجاوزها وعند محارم الله لا يتخطاها، لا بد للمسلم أن يكون وقَّافًا عند كتاب الله، يقف حيث أوقفه كتاب الله، وهذا منهج متوازن أوجده القرآن، فإذا قرأت في سورة التوبة بعد آية السيف الماضية قول الله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}، أحسست بالمعنى العميق للامتثال الذي لا يتم إلا بأن يكون المسلم وقّافًا عند حدود الله، وكم نحن بحاجة إلى استلهام هذا المعنى، إذْ صرنا في زماننا هذا نتجاوز الحدود كلها حتى مع المسلمين الموحدين لله.
لبيك اللهم لبيك
ربما إن سألت من الحجيج مائةً عن معنى (لبيك اللهم لبيك) ما أجابك منهم بأنها تعني (استجابة لك من بعد استجابة) غير واحد، هذا إنْ وُجِد، لكنّ اليقين الذي لا يخالجه شكّ أنهم جميعًا يمتلئون شعورًا بمعناها ومقتضاها، إلى حدّ أنّك إن فسرتها لهم ذلك التفسير الجاف فلربما أنقَصْتَ من قدرها في نفوسهم، إنّها طاقة باعثة، تجعل المسلم دائم الدينونة، وعلى هذا المعنى مدار الدين.