أصداء “النكسة” البعيدة!

تزحف السنوات ثقيلة ببطء نحو نهاية العقد السادس منذ الهزيمة التاريخية التي مُني بها الجيش المصري على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي في الخامس من يونيو/حزيران عام 1967، والتي لا تزال آثارها تطل بفجاجة رغم مرور كل تلك السنوات ملقية بظلال من الخذلان على واقع العالم العربي كله، إذ تُشكل فلسطين القضية المحورية المزمنة في إحدى أغنى البقاع في العالم وأكثرها في الإمكانات، وأقلها رغم ذلك في التأثير على مجريات الأمور في المجتمع الدولي بفعل عوامل معقدة ومتشابكة.
كان قطاع غزة يدار بواسطة مصر، وكانت الأردن تدير الضفة الغربية والقدس الشرقية، وكانت لها السيادة على الحرم القدسي الشريف، منذ قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية بتواطؤ الدول الغربية عام 1948.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعام واحد يكفي لحسم مستقبل ترامب
اليسار العربي ليس يسارا ولا تقدميا
فائض تركي غير مسبوق في تجارتها مع العرب
كانت الحدود مفتوحة ومتداخلة بين الضفة الغربية والمملكة الأردنية، وكان طلبة المدارس المصرية يذهبون في رحلات منتظمة طوال العام إلى قطاع غزة الذي كان محكومًا بإدارة مصرية لا تفصله عن سيناء حواجز مانعة، وظلت الأمور على هذا المنوال منذ نشأة الكيان الصهيوني وحتى الرابع من يونيو في العام الذي اصطلحت الصحافة العربية عليه بأنه “عام النكسة”.
بدون حسابات
توتر في العلاقات مع الغرب وتراشق إعلامي وتهديد كلامي وتصعيد مصري غير محسوب بطلب مغادرة قوات الأمم المتحدة ومراقبيها من سيناء في مايو/أيار 1967، ثم إغلاق مضائق تيران وصنافير في مدخل خليج العقبة أمام السفن الإسرائيلية، والاعتقاد أن المجتمع الدولي سيضغط على إسرائيل مثلما فعل في عام 1956 إبان العدوان الثلاثي على مصر حيث انسحبت مع حليفيها في العدوان إنجلترا وفرنسا، نتيجة ضغط المجتمع الدولي وإنذار الاتحاد السوفيتي.
وكانت نتيجة الحسابات الخاطئة من القيادة المصرية ضربة إسرائيلية مفاجئة بالطيران في الثامنة من صباح الخامس من يونيو، تلقتها القوات الجوية المصرية بينما وحداتها القتالية مرابضة في مدارج المطارات ليس لديها أوامر بالإقلاع أو التحليق والاشتباك.
أدت الضربة الإسرائيلية إلى تحييد سلاح الطيران المصري وإخراجه منكسرًا من ساحات المعارك، كما جعلت القوات البرية المصرية وتشكيلاتها من دبابات ومدفعية ومشاة مكشوفة في سيناء أمام الضربات الانتقامية لجيش الاحتلال الإسرائيلي، وكان أن انسحب الجيش المصري بطريقة فوضوية متكبدًا خسائر فادحة، وخزيًا ظل لسنوات، وباتت غزة وسيناء تحت الاحتلال، كما اجتاحت إسرائيل الضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان السورية ومزارع شبعا اللبنانية.
انتصار لا يكفي
رغم عبور القوات المسلحة المصرية مانع قناة السويس الصعب في أكتوبر/تشرين الأول عام 1973، ومباغتة جيش الاحتلال الإسرائيلي واحتلال الضفة الشرقية من القناة، وكذلك قيام قوات الجيش العربي السوري بالهجوم على تشكيلات الاحتلال الإسرائيلي في هضبة الجولان، فإن المحصلة النهائية كانت تحرير نحو 16 كيلومترًا فقط من أرض سيناء التي يبلغ عمقها في أقصى اتساع نحو 190 كيلومترًا على الشريط الساحلي الشمالي الممتد من بور فؤاد إلى رفح المصرية، كما بقي نحو ثلثي الجولان السوري تحت قبضة جيش الاحتلال الإسرائيلي، مع باقي الأراضي المحتلة في 1967.
لم تتناقص المساحات الكبيرة من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 رغم مرور كل هذه السنوات، وفرضت دولة الاحتلال سياسة الأمر الواقع على الجميع وثبّتت أقدامها، وكانت تلك هي القاعدة، أما الاستثناء فهو أراضي شبه جزيرة سيناء المصرية التي عادت إلى الوطن باتفاق للسلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، هاجمته معظم الدول العربية والقيادة الفلسطينية وقتها.
الحاصل أن معظم الأراضي التي احتُلت عام 1967 لا تزال تحت سيطرة إسرائيل إلى يومنا هذا دون بصيص أمل عن تحرير قريب لأي شبر فيها بعد أن كرست الدولة العبرية ورسّخت احتلالها، في حين بلغ ضَعف العالم العربي حدًّا جرّأ الكيان الصهيوني على ضم هضبة الجولان السورية إليه والحصول على اعتراف بذلك من الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس الجمهوري السابق دونالد ترمب.
أسوأ أيام العرب
ما زال الوطن العربي الكبير يتجرع مرارة “النكسة” وآثارها رغم مرور 57 عامًا على أحد أسوأ الأيام في تاريخ العرب الحديث والقديم، كما أن النكبة الجديدة التي تعرّض لها قطاع غزة حولته إلى ركام يسكنه النازحون، ولم تفلح مشاهد الجوع وعشرات الآلاف من الشهداء في أن تجعل العالم العربي يصطف يدًا واحدة لفعل حقيقي مختلف عن إبراء الذمة بالبيانات شبه العنترية التي صارت أقوى دليل على استمرار آثار “النكسة” وامتدادها طوال تلك السنوات، وأن انتصار 1973 وما أعقبه من اتفاقات لم يمح نتائج هزيمة 1967.
تُعَد مصر أكثر الدول التي تأثرت بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة الذي بدأ في أكتوبر الماضي، ذلك أنها ليست فقط دولة الجوار الأولى للقطاع المنكوب، ولكنها الوحيدة أيضا في رقعة جغرافية مكدسة بالسكان تحيطها إسرائيل من جانبين والبحر من الثالثة، وتنفرد مصر بالجهة الرابعة لتكون بمثابة الشريان الوحيد لإبقاء بصيص من الحياة في القطاع الذي دمرته آلة الحرب الصهيونية.
وبسبب أن مصر هي البوابة الوحيدة فإنها ممر الغذاء والدواء الرئيسي لغزة قبل العدوان وخلاله، والانفلات على حدودها هاجس حقيقي مع بشاعة الإبادة الجماعية التي تمارسها قوات الاحتلال الإسرائيلي خاصة بين النازحين في رفح التي تكدس فيها نحو نصف سكان القطاع هربا من القصف المستمر وسوء الأوضاع في مناطق الشمال.
استفهام واجب
لا تبدو الإجابات صعبة إذا تساءلنا: هل يؤثر التوتر الحاصل بين الدولة العربية الكبرى والدولة العبرية صنيعة الاستعمار الغربي على “السلام البارد” بين البلدين؟ وهل تؤدي الجرائم الإسرائيلية والعنف في غزة إلى تصعيد غير محسوب؟ وهل هناك فرصة لسيناريوهات الحرب القديمة سواء هجوم إسرائيل كما في حرب 1967 أو مفاجأة جيشَي مصر وسوريا لقوات الاحتلال في أراضي الدولتين في حرب 1973.
تبدو أصداء “النكسة” وآثارها بعيدة في التاريخ لكنها حاضرة بقوة في الجغرافيا، وأحد آثارها أن شبح الحرب المحتملة يبدو بوضوح أنه ينتمي إلى دروس التاريخ فقط، بعد أن أصبحت مفاتيح خرائط الجغرافيا العربية هناك في عواصم الغرب وبلاد العم سام.