لماذا يحتفي رئيس الكونغرس بمئوية “سقوط الخلافة”؟!

أكثر من 100 عام مرت على سقوط الخلافة الإسلامية بطبعتها الأخيرة (العثمانية)، ولكنها تظل مع ذلك مؤرقة للغرب، وتابعيه من العرب والمسلمين الذين يخشون عودتها، ويشوهون صورتها، وصورة كل من يذكرها بخير.
أخيرا، وفي ذكرى مئوية سقوط الخلافة، وذكرى كئيبة أخرى هي ذكرى النكبة، أو ذكرى قيام الكيان الصهيوني، احتفل رئيس الكونغرس الأمريكي مايك جونسون بما سمّاه “تحقيق الوعود التي قُطعت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب قبل آلاف السنين”، كما احتفل بـ”سقوط الخلافة الإسلامية”!!
اقرأ أيضا
list of 4 itemsصلبوه وعذبوه حتى الموت.. لماذا قتل الأهالي الشاب العشريني؟
ترامب وسنواته الأربع!
مآلات الدولة القومية في الغرب
كان لافتا أن يستدعي رئيس الكونغرس ذكرى سقوط الخلافة مع ذكرى قيام الكيان الصهيوني، الأمر الذي يكشف ما يحمله العقل الباطن له ولغيره من الساسة والقادة الغربيين من كراهية للخلافة التي ظلت حتى في أضعف حالاتها حائلا دون قيام الكيان الغاصب، ولنا أن نستدعي بدورنا هنا دور السلطان عبد الحميد الثاني -رحمه الله- الذي رفض كل الإغراءات التي قدمتها له الحركة الصهيونية وحلفاؤها الغربيون للسماح بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وأصدر عام 1876 مذكرة قانونية بعنوان “مذكرة الأراضي العثمانية” أو كما هي في اللغة العثمانية “عثمانلي أراضي قانوني”، منع بمقتضاها بيع الأراضي العثمانية وخاصة الفلسطينية لليهود منعا باتا، وجهز وحدة شرطة خاصة للقيام بهذا الأمر ومتابعته، وخصص السلطان أوقاتا محددة وقصيرة لليهود الراغبين في زيارة فلسطين، كما رفض عرضا صهيونيا بسداد جميع ديون الدولة العثمانية وحتى تزويد الميزانية والخزينة العثمانية بفائض عن حاجتها، وقال قولة مشهورة “والله لئن قطعتم جسدي قطعة قطعة لن أتخلى عن شبر واحد من فلسطين”، صحيح أن سلطة الانتداب البريطاني على فلسطين منحت اليهود وعدا بإقامة وطن قومي لهم على تلك الأرض (أعلنه بلفور وزير خارجية بريطانيا عام 1917) لكن هذا الوعد ظل حبرا على ورق إلى ما بعد سقوط الخلافة رسميا بربع قرن.
قوة المسلمين العالمية
كانت الخلافة الإسلامية وبالذات في عصورها الذهبية (الراشدة والأموية والعباسية وحتى العثمانية قبل ضعفها) بمنزلة القوة العالمية الكبرى من حيث الاتساع الجغرافي، وامتلاك القوة العلمية والعسكرية، وامتلاك أسس العلوم الطبية والرياضية والفلكية، والنهضة العمرانية، وكان خليفتها العباسي هارون الرشيد يقول للسحابة في السماء “شرّقي أو غرّبي فأينما أمطرتِ فسوف يأتيني خراجك”، بينما كانت أوروبا تغط في ظلام القرون الوسطى، واستبداد ملوك إمبراطورياتها واستعبادهم لشعوبها بالتحالف مع الكنيسة التي وقفت ضد الاكتشافات والاختراعات العلمية، والتي حاكمت عالم الفلك جاليليو بسبب نظريته عن مركزية الشمس ودوران الكواكب الأخرى حولها.
رجال السياسة والفكر الغربيين يكرهون الخلافة، لأنها صنعت وحدة المسلمين لأكثر من 1300 عام، ولأنها سبقتهم بنهضتها العلمية والعمرانية، ولأنها غزتهم في عقر دارهم لفترات طويلة، ولكنهم يحاولون تغليف كراهيتهم وتابعيهم في الشرق للخلافة بمزاعم استبداد الخلفاء، وفسادهم وغرقهم في الملذات، وإفقار شعوبهم، ومعاملتهم بطريقة غير آدمية، والحقيقة أنهم بهذا ينطبق عليهم المثل “رمتني بدائها وانسلت”، فقد كانت الإمبراطوريات الأوروبية هي التي تفعل هذه الجرائم بحق شعوبها في العصور الوسطى، ومع ذلك فإننا لا يمكن أن نبرر استبداد أو فساد بعض الخلفاء أو ولاتهم، حتى وإن كانت حالات فردية أو معزولة.
تهديد للغرب
يرى الغرب أن إحياء الخلافة يمثل تهديدا للقيم الغربية التي فرضت وجودها بالقوة الناعمة حينا والخشنة أحيانا على مناطق كثيرة في العالم، كما يرى الغرب أن إحياء الخلافة (الوحدة الإسلامية) يمثل خطرا على نفوذه السياسي الذي يستفيد من تشرذم الدول الإسلامية، ويفقد هذا النفوذ بالتأكيد في حال وحدة العالم الإسلامي، كما أن نفوذه الاقتصادي مهدَّد أيضا، فالعالم الإسلامي الذي يمثل ربع اليابسة، وربع سكانها، يستحوذ على نحو 12% من الاقتصاد العالمي حاليا (نحو 10 تريليونات دولار)، لكنه مؤهل في حال قيام وحدة حقيقية بين دوله لمضاعفة هذه النسبة، كما أنه سيكون أكثر قدرة على إدارة سوق الطاقة العالمية لأنه يتحكم في نصف إنتاج العالم من النفط فقط بخلاف إنتاجه من الغاز.
في الوقت الذي يحارب فيه الغرب عودة الخلافة فإنه سعى فعليا إلى أشكال متنوعة من الوحدة، مثل الاتحاد الأوروبي الذي يضم حاليا 27 دولة ولا يزال ينتظر المزيد، ومثل الولايات المتحدة الأمريكية التي تضم حاليا 50 ولاية كانت جمهوريات مستقلة من قبل، لكنه لا يزال مصرّا على استمرار تفرق وتشرذم العالم العربي والإسلامي، حتى يواصل هيمنته عليه، وهو (الغرب الاستعماري) من وضع شعار “فرّق تسد”، ولا يزال يستخدمه.
يستغل الغرب وتابعوه في الشرق ظهور بعض التنظيمات الإسلامية المسلحة التي تحمل راية الخلافة مثل داعش والقاعدة، وما اقترفه التنظيمان من عمليات قتل وتدمير في الأماكن التي سيطرا عليها لبعض الوقت، لإعادة الشحن ضد الخلافة ومن يتمسك بها، ويسجل الغرب بعض النجاحات في هذه المساعي، حتى أن بعض الإسلاميين المقتنعين بمشروع الخلافة أصبحوا يخشون إعلان موقفهم حتى لا يتم ربطهم بتلك التنظيمات، ومن ثَم وصمهم بالإرهاب.
إن الدعاية الغربية المضادة لفكرة الخلافة لا ينبغي أن تحبط المسلمين، بل يجب على مفكريهم تقديم اجتهاد عصري للخلافة الإسلامية يتجنب سوءات الماضي، ويستلهم روح العصر، ولعل تطويرا وتفعيلا حقيقيا لمنظمة التعاون الإسلامي، ومنحها الصلاحيات الكافية وتوفير الموارد اللازمة لها، يمكن أن يجعلها بديلا عصريا للخلافة المفتقدة.