«بره المنهج».. فيلم عن مذيع النكسة

أحمد سعيد مذيع النكسة في استوديو إذاعة صوت العرب

لم يُظلم إعلامي في تاريخ الإذاعة المصرية مثلما ظُلم الإذاعي أحمد سعيد، هذا الرائد الإعلامي الذي تولى مسؤولية إذاعة صوت العرب مديرا لها في عام الهزيمة 1967، بل وصل الأمر بالبعض أن اتهمه بأنه سبب الهزيمة.

أحمد سعيد كان أحد بناة إذاعة صوت العرب المصرية التي ساهمت في بناء وجدان الطبقة المتوسطة المصرية والعربية، وامتدت آثارها إلى كل البلدان العربية، وساهمت في حركة التحرر العربية من ثورة المغرب عام 1953،  وهو تاريخ إنشاء المحطة الإذاعية حتى ثورة اليمن عام 1962 مرورا بثورة الجزائر في منتصف الخمسينات.

في كل حركات التحرر العربي كانت صوت العرب حاضرة بصوت أحمد سعيد الذي التحق بها عام نشأتها واستقال منها في يوليو/ تموز 1967، أي بعد الهزيمة بشهر واحد.

لم يستطع أحمد سعيد الإذاعي الذي كان يؤمن بأفكار يوليو أن يتحمل الخطأ الذي لا يُسأل عنه، فنحن لسنا أمام آراء سياسية لك أن تختلف معها أو تتفق، نحن أمام بيانات صادرة من القيادة العامة للقوات المسلحة، وحينما اتضحت ملامح الهزيمة في منتصف ليلة السادس من يونيو كان على سعيد أن يقوم بدور مختلف وهو الحفاظ على روح الأمة، وعدم فقدانها للأمل أو انهيارها.

يحكي أحمد سعيد عن ذلك في عديد من اللقاءات التليفزيونية، ما كان على صوت العرب أن تصمت عشية يوم الخامس من يونيو، وإلا انهارت الأمم والشعوب عند الهزيمة. قال لي الإعلامي الراحل السيد الغضبان،  وهو واحد من رواد الإذاعة المصرية وكان حاضرا في تلك الأيام أنه ذهب إلى أحمد سعيد، وأخبره أن الإذاعات العالمية وكل الأخبار القادمة من العالم تقول عكس البيانات الصادرة عن القيادة العامة، وأن الجيش المصري قد هزم لكن سعيد رفض أن يترك مكانه أو إذاعته تنهار.

يقول السيد الغضبان “إن الكثير من قيادات وإعلاميين بالإذاعة أصيبوا بانهيار”، ويقول أحمد سعيد إن إعلاميا كبيراً كالأستاذ جلال معوض وقع مغشيا عليه ولم يتحمل الأخبار.

فيلم عن الكذب

فيلم (بره المنهج) أنتج عام 2021 يتخذ من بيانات الهزيمة خيطا دراميا، ومن اتهام أحمد سعيد بالكذب محورا للعمل. والفيلم من تأليف وإخراج المخرج عمرو سلامة الذي يقول إن الفيلم وفكرته ظلت في عقله عشر سنوات، وهو الفيلم الخامس لعمرو سلامة الذي كان أول أفلامه فيلم (زي النهارده) 2008، وأبرز أفلامه (أسماء).

حاول عمرو أن يمزج في فيلمه (بره المنهج) بين الحكي الأسطوري والواقع من خلال مجموعه من الأحداث التاريخية التي طوعها لإبراز فكرته عن التغيير الذي يحدث في عقلية طفل يتعرض للتنمر لأنه ضعيف البصر فيعيش حياته على الكذب حتى يقابل الكذاب كما يصفه مؤلف ومخرج الفيلم أحمد وحيد (أو أحمد سعيد).

في اللقطات الأولى للفيلم يصف الراوي بلسان أحمد وحيد (ماجد الكدواني) حياة الطفل نور الذي يطلق عليه الجميع أسم عماشة (لأنه لا يرى جيدا). أما وصف حياة نور، فهو وهم يجافي الحقيقة هكذا يصف الراوي أحداثا ليست حقيقية. الواقع المزرى حوله لقصيدة جميلة، وهنا لا يمكن وأنت تدرك ما وراء الفيلم إلا الإسقاط على مصر الخمسينيات والستينيات، فكل الكلام كان مغايرا للواقع وكان كذبا.

لك أن تصدق أن التصنيع كان انهيارا للصناعة، والسد العالي كان حرمان الأرض من الطمي، وأن تأميم القناة كان مغامرة لباحث عن الزعامة، ومساعدة الثوار في الجزائر واليمن وكل مناطق التحرر، كل هذه أوهام الزعيم، وأن الإصلاح الزراعي كان تفتيت للأراضي الزراعية، هكذا من أول لقطات الفيلم يحاول المخرج المؤلف الذي لم يدرس السينما (خريج كلية التجارة) أن يوهمنا من قبل أن نرى الفيلم، وأن نور أو عماشة بطل الفيلم يعيش في وهم ولا يرى.

يتعايش عماشة مع كذبه وضعفه في مواجهة المجتمع، ويكذب بشكل مستمر حتى يضعه كذبه وبطولته الفارغة في مواجهة رجل يعيش منعزلا في بيت مهجور ولا يراه أحد ويطلقون على الساكن الذي لا يُرى الشبح. يكتشف نور أن الشبح هو إنسان، وتنشأ علاقة بين أحمد وحيد (الشبح) والطفل الكاذب، فالأول يعاني أزمة الكذب التي ألصقت به، فهجر المجتمع معترفا بجريمته، والثاني لا يجد سوى الكذب طريقة للتعايش مع مجتمع لا يصدق الحقائق.

بره الفيلم

اصابت الإذاعي احمد سعيد صدمة كبيرة من هزيمة يونيو/ حزيران، لكنه لم يعتكف أو ينعزل عن المجتمع، استقال من عمله الإذاعي كرد فعل لعدم تحمله الهزيمة، لكنه لم يفقد إيمانه بالثورة واستمر فاعلا في المجال العام، تعرض كما معظم الإعلاميين بعد تولي أنور السادات للاضطهاد لكنه أسس مركزا للدراسات وعاد للظهور في محطات عربية عبر لقاءات تليفزيونية.

تشكلت بين الطفل البطل والشبح أو أحمد وحيد المنعزل عن الناس علاقة إنسانية أشبه بعلاقة الأب والابن، ويبدأ أحمد في محاولة لتكوين شخصية الطفل بالحكي التاريخي عن شخصيات تاريخية ليعلم الطفل الاعتزاز باسمه، وثقته بذاته، والشجاعة، وفي هذا يتعرض المؤلف المخرج لثلاث شخصيات تاريخية يحكيها الإعلامي المنعزل للطفل وهم: أخناتون، وصلاح الدين الأيوبي، وعمر مكرم.

يقول المؤلف إن ما تعلمناه عن الثلاثي جوه المنهج مختلف عن حقيقته بره المنهج، والواقع أن بره المنهج الذي طرحه في فيلمه كان وهما أو كذبا وليس الواقع فكان ما هو بره المنهج جزءا من كذب الفيلم.
فيلم عن الكذب فيه كذب جوه الفيلم. فأخناتون وحد الأديان لأنه كان يريد إرضاء زوجته نفرتيتي، وصلاح الدين الأيوبي كان مشوهًا ومريض بمرض جلدي ولكنه شجاع. وعمر مكرم عقد صفقة مع محمد علي لإخراج الفرنسيين، لكنه لم يكن واثقا في ذاته ليقود مصر، فكان جزاءه النفي وحكم الجندي الألباني مصر.

جوه الفيلم

تستمر علاقة الإعلامي الذي يعاني عقدة الكذب ويعلم الطفل عدم الكذب، والطفل يتغير بحكايات الإعلامي ويتحول إلى سمات الصدق والشجاعة والثقة بالنفس، لكن المجتمع لا يصدق الطفل حين يصدق، فهم يريدون أشباحا تحل لهم مشاكلهم الحياتية، وحين يصرح لهم الطفل أنه ليس هناك شبح، وأن علاج بعضهم كان نتيجة التعامل مع المشكلة او إيهام نفسي لا يصدقونه، ويثورون عليه لتخاذله عن حل مشاكلهم.

يحاول الطفل أن يساعد الإعلامي المنعزل للعودة إلى حياته الطبيعية ومرددا أن الجميع يكذب، ولا ينسى المخرج أن يمارس هو أيضا كذبه على التاريخ والواقع. وفي مشهد للبطل (ماجد الكدواني) أحمد وحيد يقول إنه كان يكذب على المستمع كل صباح عبر الإذاعة فهل كانت أيام أحمد سعيد في صوت العرب كلها كذب؟ ورغم أن مدرسة الموسيقى التي تهتم بالطفل نور والوحيدة النموذج الجيد في المجتمع حول الطفل تقول لها إنها تربت على صوته!

المخرج يستعرض صحف أيام الهزيمة كلها وهي تحمل نفس البيانات والعناوين الصادرة في بيانات القيادة العامة للقوات المسلحة، ومع ذلك فأحمد وحيد هو وحده الكاذب وبنص الفيلم ” أنا كذاب.. كذاب يا نور” لكن بره الفيلم الجميع مصدره واحد بيانات القيادة، ولكن أحمد هو الوحيد الذي يعاني عقدة الكذب، أما بره الفيلم فالإعلامي يدرك بثقافته وعلمه أنه ما كان ينبغي في وقت الحرب أن يراجع بيانات القيادة، وتلك حقيقة لا يستطيع أن يتجاوزها لا عمرو سلامة ولا أي أحد يعمل في الإعلام.

لم يجتهد المخرج المؤلف في معرفة بطل حكايته، لكنه حمل كما جيل كامل بدعايات إعلامية. قال أحمد سعيد نفسه، في أحد لقاءته: إن الإعلام غير محايد وأن المتحكم فيه هو رأس المال، وهو الذي أنتج فيلما كان مفروضا أن يتحرى الصدق والحقيقة حتى لا يصبح هو نفسه فيلما كاذبا في فيلم عن الكذب.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان