قراءة في “دماغ” حماس التفاوضي

أذكر في عام 1995، كنت أقوم بتغطية صحفية لمحادثات ماراثونية بالقاهرة، بين حركة “فتح” من جهة، وحركتي “حماس” و”الجهاد” من جهة أخرى، بهدف إقناع الأخيرتين بإلقاء السلاح، والمشاركة ترشيحًا وترشُحًا، في أول انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية في أعقاب اتفاقيات أوسلو، التقيت في اليوم السابق لبدء المحادثات، مع المشاركين من قادة “حماس” في ذلك الوقت، خالد مشعل وموسى أبو مرزوق ومحمد نزال وغيرهم، وقد أكدوا جميعًا قرارًا تم اعتماده قبل بدء المفاوضات على أنهم لن يقبلوا المشاركة في الانتخابات، ترشيحًا أو ترشحًا، ولن يلقوا السلاح أيضًا، (وكانت الإجابة خاصة جدًا)، فكان سؤالي البديهي: ولماذا شاركتم في المفاوضات ما دام الموقف محسومًا؟ فكان الرد: حتى لا نُغضِب مصر!!
في شهر مايو عام 1996 بالعاصمة الأردنية عمان، أجريت اتصالًا هاتفيًا بخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” بالإنابة في ذلك الوقت حيث كان يقيم، ذلك أن موسى أبو مرزوق رئيس المكتب كان معتقلًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وطلبت لقاء مشعل لإجراء حوار صحفي لـ”الأهرام”، ربما كان الأول له مع الصحافة القومية المصرية، اتفقنا على أن يأتي للفندق الذي أقيم فيه، ظللت في انتظاره حتى منتصف الليل دون جدوى، إلا أنني فوجئت به في السادسة صباحًا يطرق باب الغرفة ليقول: جئت لأوصلك إلى المطار وسوف نتحدث في الطريق، وأضاف: (لم يكن ممكنًا -أمنيًا- المجيئ في نفس الموعد الذي اتفقنا عليه من خلال الهاتف، إلا أنني سألتك عن موعد السفر، فقلت لي سوف أتحرك من الفندق السابعة صباحًا، فقررت أن آتيك قبل التحرك!!).
الـرد خـلال أيـام
بالمناسبة، في هذا اللقاء سألته عن سر عدم القصاص للمهندس يحي عياش، حيث كان قد مضى على اغتياله نحو 4 أشهر، فأجاب قائلًا: (اغتيال يحي عياش عملية كبيرة وسيكون الرد على نفس المستوى)، وقال إن هذه الإجابة للنشر، أما ما ليس للنشر فهو أن (الرد خلال أيام)، وبالفعل وخلال أسبوع واحد، شهدت إسرائيل أكبر 3 تفجيرات في تاريخها، بالقدس وعسقلان وتل أبيب على التوالي، أسفرت عن عشرات القتلى، وهو ما دعا الرئيس المصري حسني مبارك إلى الدعوة لمؤتمر شرم الشيخ للسلام، الذي حضره عدد كبير من قادة العالم، وكان مبارك في ذلك الوقت يهدف إلى امتصاص الغضب الإسرائيلي الذي كان يتجه إلى أكثر من مكان، ثم جاءت في العام التالي محاولة جهاز “الموساد” الفاشلة لاغتيال خالد مشعل في الأردن.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبلشي وسلامة.. معركة الصحافة و”اللا صحافة”
فيديو القسام لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين.. هل وصلت الرسالة؟
رسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
على هامش الانتخابات الرئاسية والتشريعية الفلسطينية، في يناير 1996، أجريت في مدينة رام الله بالضفة الغربية حوارًا مع السيدة سميحة خليل، مرشحة الرئاسة آنذاك في مواجهة الرئيس ياسر عرفات، وسألتها عن سبب إحجام حركتي “حماس” و”الجهاد” عن المشاركة من وجهة نظرها، فقالت: إنهم لا يعترفون بوجود إسرائيل، موضحة أن العمل من خلال السلطة الجديدة سوف يتطلب التعامل مع إسرائيل، وهو ما ترفضه المقاومة الإسلامية عمومًا.
بيد أن حوارات عديدة مع قادة الحركة في الضفة في ذلك الوقت، أيقنت منها أنهم يراهنون على فشل السلطة الفلسطينية، ما دامت الأجهزة الأمنية فيها سوف تعمل تحت إمرة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، من خلال عناوين التنسيق الأمني وتبادل المعلومات وخلافه، وهو ما كان واضحًا منذ اليوم الأول، وهناك اعترافات للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بالندم على توقيع اتفاقية أوسلو، التي استهدفت تنصيب حماية أمنية فلسطينية لإسرائيل من المقاومة، وهو ما لم يفطن له عرفات منذ البداية، بما يشير إلى أن “حماس” كانت أكثر فطنة.
حركة “حماس” انتظرت وصبرت، 10 سنوات كاملة، من 1996 حتى 2006 حتى قبلت الدخول في معترك الانتخابات التشريعية في ذلك الوقت، بعد أن أيقنت انهيار السلطة الفلسطينية شعبيًا في أعقاب رحيل عرفات عام 2004، ذلك أنها أصبحت سلطة فساد من جهة، وتنسيق أمني مخجل مع سلطة الاحتلال من جهة أخرى، ناهيك من التخلي عن المقاومة كطريق رئيس لتحرير الأرض، في غياب المسار السياسي الذي تلاعبت به إسرائيل منذ توقيع اتفاقية أوسلو عام 1994 حتى الآن، ثم أصبحت ترفض أخيرًا مجرد مناقشة هذا الطرح، الذي ترى الحكومة المتطرفة الحالية، أنه سوف يفضي إلى نهاية دولة إسرائيل.
الإطـاحة بالسلـطة والاحـتلال
من خلال انتخابات 2006 التي حققت فيها الحركة فوزًا كبيرًا على الفاسدين بالسلطة الرسمية هناك وفي مقدمتهم محمد دحلان، وبعد مناوشات مسلحة للأسف، نتيجة محاولات السلطة عدم التسليم بنتائج الانتخابات، حيث محاولة الاحتفاظ بالقطاع الأمني، استطاعت “حماس” فرض هيمنتها على القطاع، الذي جاء بعد عام واحد من إجبار سلطة الاحتلال على الانسحاب من كامل قطاع غزة وإزالة 21 مستوطنة، وإخراج المستوطنين والقواعد العسكرية من القطاع، تحت وقع ضربات المقاومة وعملياتها، التي لم يستطع آرئيل شارون رئيس وزراء الكيان آنذاك الصمود أمامها.
الآن تخوض حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، أشرف معارك النضال والجهاد، بالإنابة عن الأمتين العربية والإسلامية، في مواجهة قوى ثلاثية من، الاحتلال الصهيوني والاستعمار الغربي والاستكبار الأمريكي معًا، مسطرة بطولات مشهود بها ليس على المستوى العسكري فقط، بل على المستويين الإعلامي والسياسي أيضًا، ذلك أن ما تسمى بالمبادرات والمفاوضات الدائرة الآن على أكثر من صعيد، والضغوط الدولية بشأنها من كل جانب، كانت كفيلة بإجبار الحركة على القبول بما يتم طرحه من فخاخ، تستهدف في نهاية الأمر القضاء على المقاومة الفلسطينية، إلى الأبد، ومن ثم تصفية القضية نهائيًا، إلا أنها جميعًا اصطدمت بعمليات تفاوضية معقدة، على مستوى عالٍ من الخبرة التراكمية، لم يكن يتوقعها العدو.
تبقى الإشارة، إلى أن السياسة الإسرائيلية، والدبلوماسية الغربية، والمراوغات الأمريكية، والتخاذل العربي، في آن واحد، قد سقطوا جميعًا في وحل غزة، بفعل دهاء المقاومة الفلسطينية بشكل عام، سواء فيما يتعلق بالعمل على الأرض في ميدان المعركة، أو التأثير في الساحة السياسة والعواصم العالمية والشارع من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها، وهو ما جعل الاتهامات بالإبادة في ساحات المحاكم الدولية، تتجاوز دولة الكيان الصهيوني، إلى أنظمة أخرى، في مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا بشكل خاص، ناهيك من التغيير الجذري في الفكر العالمي والضمير الشعبي العام، بفعل تخطيط حركة “حماس” ودهائها بشكل خاص، بقيادة يحي السنوار، الذي قض مضاجع كيان الاحتلال، وأصبح في الوقت نفسه أيقونة العالم الحر.