حين تغيب مقاصد الحج عن المسلمين؟!

مع تلبية المسلمين لأمر الله بالحج لمن استطاع إليه سبيلا، يرى العالم الحجاج وهم يقفون جميعا على صعيد عرفات، لأداء ركن الحج الأعظم، في وقت واحد، بلباس واحد، متوجهين لقبلة واحدة، يناجون ربا واحدا؛ وهو ما يعكس صورة ظاهرها وحدة المسلمين، ولكن باطنها يخفي الكثير في ظل غياب مقاصد الحج عن المسلمين في زماننا المعاصر.
إن الصورة المبهرة للمسلمين وهم يؤدون مناسك الحج تخفي وراءها واقعا مؤلما تعيشه الأمة الإسلامية في وقتنا الحاضر، يعكس بوضوح جانب منه ما يحدث في غزة وفلسطين على يد الاحتلال الإسرائيلي، وغير ذلك مما يتعرض له المسلمون، وما صار إليه حالهم في بقاع شتى من العالم.
اقرأ أيضا
list of 4 items“ماركات” تحت المجهر: من يصنع الثراء؟ ومن يبيعه؟
نهاية الإخوان!!
الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ المنشاوي في سوهاج
ومنذ عقود يأتي موسم الحج، وبلاد المسلمين تتعاظم فيها الأرزاء، وجسد الأمة تناله سهام الأعداء، وأصبح مثخنا بالجراح، وقد تكسرت النصال على النصال.
ومع كل ميلاد جديد لمن حج ولم يرفث ولم يفسق -بخروجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه- يُترقبُ ميلاد جديد للأمة الإسلامية، بخروجها من كبوتها التي طال أمدها، لتعود إلى مكانتها، وتستعيد ريادتها في عالم أصبح يتوق إلى عدل الإسلام وهديه، وتتساءل البشرية أين المسلمون لإنقاذ العالم مما ألم به من خسارة بتراجع وغياب المسلمين؟
وما بين الغياب والتغييب، هذا هو حال مقاصد الشريعة، ومنها مقاصد الحج في واقع المسلمين اليوم.
ومع أداء المسلمين فريضة الحج كل عام يتجدد السؤال حول مقاصد فريضة الحج التي غابت عن المسلمين؟
كم هي عظيمة مقاصد الحج! وكم هي سامية أهداف ذلك الركن الخامس من أركان الإسلام! ولا يتسع مقامنا لتفصليها.
وعلى كثرتها، تدور مقاصد الحج إجمالا بين المقاصد العقدية والتشريعية، والعلمية والفكرية، والاقتصادية والاجتماعية على مستوى الفرد والأمة؛ انتهاءً بالمقصد الجامع لكل المقاصد، الذي يعبر عنه قوله تعالى في سورة الحج {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ ۖ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}.
لكن الواقع يخبرنا أنه قد غاب عن المسلمين إدراك معنى الحج وحقيقته، وويل لهم إذا لم يدركوا ذلك، وويل لأعداء المسلمين إذا أدركوا معنى الحج وحقيقته!
يمثل الحج إلى بيت الله الحرام هجرة ورحلة ربانية، وميدانا لصناعة الذات والجهاد الأكبر، بما يمثل إعادة صياغة لذات الأمة الإسلامية.
إن الحج أعظم مؤتمر تعبدي على وجه الأرض، وهو يعكس تماسك المسلمين ووحدة الأمة. ورغم تفرق بلاد المسلمين إلى دول ودويلات شتى، بقي الحج هو نقطة الالتقاء، يلتقي فيه وحوله المسلمون، ويخشى أعداء الأمة أن يدرك المسلمون معناه وجوهره؛ لما يمثله ذلك من خطر عليهم.
الحج من مظاهر قوة المسلمين
الحج هو الفريضة الأقدر على استثارة الطاقات الكامنة في الأمة الإسلامية، لتنتفض في وجه أمراضها وآفاتها الذاتية، وفي مواجهة أعدائها.
يجسد الحج مظهرا من مظاهر عظمة الإسلام وقوة المسلمين، واجتماع المسلمين من كافة أرجاء المعمورة، على اختلاف أجناسهم وأعراقهم، في مكان واحد ووقت واحد، يؤدون مناسك الحج وشعائره، ملتزمين باجتناب محظورات الإحرام، كل هذا مما يؤكد ضرورة وحدة الإمة الإسلامية، وهو ما يرهب أعداء الأمة في كل زمان ومكان.
في كتابه “حاضر العالم الإسلامي” الصادر عام 1921، المترجم إلى عدة لغات، الذي نقتبس منه مع التصرف بعض اللمحات، يقول المستشرق الأمريكي لوثروب ستودارد: “إن الوحدة الإسلامية قائمة على ركنين لا ثالث لهما: الحج إلى بيت الله الحرام، والخلافة، وقد غلب على رأي الكثير في الغرب وهمٌ في هذا الموضوع، فهم يتصورون أن الخلافة لا الحج العامل الأكبر والأشد، الذي بسببه يتشارك المسلمون ميولًا وعواطف، تشاركًا مؤديًا إلى اعتزاز الوحدة، وازدياد منعتها، وامتدادها، وانتشارها، على أن هذا لمن الوهم الصرف، فالأمر حقًّا على الضد منه”.
ويشير ستودارد بعد حديثه عن فرض الحج إلى اجتماع المسلمين من كل بقاع العالم في مكة، يتعارفون على اختلاف ألسنتهم وأجناسهم، يتباثون العواطف الدينية، ويتباحثون في الشؤون الإسلامية، ثم يعودون إلى بلدانهم، فيكون الواحد منهم محل إجلال من إخوانه المسلمين، وتعلو منزلته بينهم ما دام حيًّا.
وعن المقاصد والأغراض التي تتحقق من الحج، يقول ستودارد: “فالمقاصد والأغراض السياسية التي تتحقق من الحج الممهد لها السبيل، إنما هي معلومة وواضحة، بل يكفي أن نقول إن الحج هو المؤتمر الإسلامي السنوي العام، فيه يتباحث الوفود الإسلامية، والنواب المسلمون الطارئون من الأقطار الإسلامية، في مصالح الإسلام، وفيه يضعون الخطط للدفاع عن بيضة الإسلام، والذب عن حياض المسلمين، ونشر الرسالة، وفي هذا المؤتمر العظيم كانت قلوب قادة اليقظة الإسلامية وأبطالها كمحمد بن عبد الوهاب، والسنوسي وجمال الدين الأفغاني تشعر بجلال الواجب الإسلامي المقدس، وتتقد من خطورة المشهد وروعة المحفل غيرة على الإسلام والمسلمين” انتهى الاقتباس.
هكذا ينظر الآخرون إلى الحج وما يحمله من مقاصد ومعانٍ أصبحت غائبة عن المسلمين، ويدركون أنها مصدر قوة للمسلمين.
ما أقل الحاج رغم كثرة العدد!
مما أُثر عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه قيل له: ما أكثر الحاج! فقال: ما أقلهم! ثم أجاب: الراكب كثير والحج قليل. ومعنى ذلك أن عدد الحجاج كبير لكنّ من يدرك معاني الحج ويقف عند مقاصده بقلبه، قليل. قال ابن عمر ذلك في زمن قريب من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا عن زماننا هذا!
ورغم الملايين التي تقصد الحج كل عام فإنها في عدد الراكبين، فالفرق بين الحاج والراكب كالفرق بين من يصلي ومن يقيم الصلاة؛ فالمصلي ظاهره أنه يؤدي الصلاة بحركاتها، أما مقيم الصلاة فهو من يؤديها بخشوع وحضور قلب، فتترك الصلاة أثرها عليه فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وهذا ما يشير إليه قول الله عز وجل {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ}.
إن الفرق كبير حين تغيب مقاصد الحج عن المسلمين، وحين تستحضر الأمة تلك المقاصد، ففي ذلك بعث لما أميت منها، ولكن أكثر الناس لا يفقهون.