المؤرخ “عادل غنيم” وحرب 67 إن نفعت الذكرى

المؤرخ المصري عادل غنيم

قبل وفاته صيف عام 2017، والذي يوافق اليوم 18 يونيو/حزيران، نشرتُ في “الأهرام” للمؤرخ للدكتور “عادل غنيم” رئيس “الجمعية التاريخية” في مصر بين 2008 و2013 عمدة الدراسات الأكاديمية عن الحركة الوطنية الفلسطينية بجامعاتها حوارين، في 15 مايو 2014 و15 أكتوبر 2016.

ثم عدتُ في 13 أكتوبر/تشرين الأول 2016 لأكتب “بالجريدة نفسها مقال الرأي: “المؤرخ عادل حسن غنيم وحديث الوثائق”، وذلك بمناسبة ذكرى حرب 73 ولإشرافه على عمل علمي كبير بالنسبة لتاريخ مصر والمنطقة، وهو “موسوعة مصر والقضية الفلسطينية”، وبتكليف من مجلس الوزراء المصري صدر عام 2009، وفي إطار المجلس الأعلى للثقافة.

ولقد تعددت زياراتي له في منزله مع حوارات طويلة غير منشورة قبل نشر هذا المقال. وكان يستعد رحمه الله حينها لإصدار الكتابين الخامس والسادس من الموسوعة عن مقدمات حرب 1967، ويعاني ما يكتنف البحث عن وثائقها وحرب 1973 من صعوبات، وحجب الجهات المعنية ما لديها.

بين عتمة القاهرة

وأرشيفات صحف بيروت

عندما أعود اليوم لما تضمنه مجلد مقدمات حرب 1967 أو هزيمتها بالأدق في جزئيه، وبعد مراجعة أرشيفات مكتبة الجامعة الأمريكية ببيروت وصحفها، يتأكد عندي جدية افتراض مفاده أن هناك وبعد ما يقارب السبعة عقود جوانب ما زالت خافية أو محجوبة، لم توضع محل بحث ونقاش بين أسباب الهزيمة.

فقد فاجأتني أرشيفات الصحف اللبنانية بين نهاية الخمسينيات وكارثة 5 يونيو/حزيران بحجم وضراوة الصراعات التي خاضها نظام “عبد الناصر” مع محيطه العربي بإرادة منه أو بالتورط فيها، وفيما كان يرفع شعارات “القومية والوحدة العربية” ويزود عن زعامته الإقليمية.

ويلفت النظر على نحو أخص كون أن العديد من هذه الصراعات الضارية كان في مواجهة وضد الفرقاء “التقدميين” بالمشرق العربي، ومع قوى سياسية وأحزاب وحكام وسلطات وأجهزة ترفع رايات “البعث” و”القوميين العرب” و”الشيوعيين” و”القومي السوري” وغيرها. وليست وحسب ضد من وصفتهم القاهرة آنذاك “بالرجعية العربية”.

وثمة هنا أحداث عنف دموي وتدمير وإنهاك منسية أو محجوبة، وتفيد بتجاوز كل اعتبارات العقل والمنطق والأخلاقيات والمصالح المشتركة في مواجهة العدو الصهيوني.

وجدت مثلًا في صحف بيروت آنذاك، مع بعض أصداء في “أهرام” عبد الناصر/هيكل، أبعادًا كارثية صادمة لأزمة صيف 1962، حين انسحبت القاهرة من الجامعة العربية أو كادت بعد شكاوى سورية وعراقية ولبنانية ضد تدخلاتها. وهو ما تجاهلته في الأغلب عملية كتابة التاريخ المهمة والشجاعة في مصر بعد هزيمة 67، والتي كانت تسعى لتخطي “بروباغندا” وزيف التاريخ الرسمي منذ 1954.

ولا أجد في الجهد المقدر “للموسوعة” ما يأخذ في الحسبان وبالدراسة مثل هذه الأحداث الجسام، وما تعكسه من خلل في إدارة السلطة الناصرية لعلاقاتها الإقليمية العربية عند محاولة تفسير: لماذا انهزمت مصر في يونيو 67؟.

من أوراق

الصحفي الخاصة

لا أعرف إلى أي حد سيكون صادمًا مزعجًا وغير مقبول لليوم إخراج هذه الجروح المصرية/العربية للنور من عتمة الماضي؟، وتحدي استمرار التعتيم عليها، ووضعها الآن تحت كشافات الإعلام ومجهر البحث العلمي للتاريخ.

لكنني اليوم مع الذكرى السنوية السابعة لرحيل الدكتور “عادل حسن غنيم” استخرج من أوراق الصحفي الخاصة بعض ما دونت خلال زيارتين لمنزله يومي 1 أكتوبر/تشرين الأول 2015 و19 فبراير/شباط 2016، ولعلها تفيد في هذا السياق. وللمرة الأولى أنشر بعض ما قال بصراحة ووضوح. وكأن كلانا حينها كان يتوج رحلة معرفة وتقدير متبادلين بين صحفي ومصدر، اختبرتها المواقف والنقاشات على مدى سنوات.

ـ أسف شيخ المؤرخين لأن بلدًا بأهمية مصر في إقليمه لا يعرف بعد قانونًا يتيح الاطلاع على الوثائق والمعلومات. وقال إنه في العالم العربي لا يوجد نظام محدد للتعامل مع الوثائق، والاطلاع عليها يعتمد على الصدفة أو الواسطة أو العلاقات الخاصة أو النفوذ. وأشار إلى أن بريطانيا تسمح بإتاحة الوثائق السرية بعد 25 سنة، والولايات المتحدة 30 سنة.

ـ من واقع خبرته الأكاديمية باحثًا ومشرفًا على أطروحات بجامعة عين شمس أفاد بأن ما يتوافر من وثائق مصرية عن الصراع العربي الصهيوني يتمثل في أوراق لوزارة الخارجية بين بداية العشرينيات ومنتصف الستينيات. وهي محفوظة بدار الوثائق وبمقر لمجلس الوزراء بشارع القصر العيني بالقاهرة، ويمكن للباحثين الاطلاع عليها. أما عدا ذلك، فلا جدوى من المحاولة. ولا سماح للاطلاع على الوثائق المفهرسة المصنفة للوزارات المسماة “بالسيادية” بدار الوثائق.

ـ قال إنه كتب بوصفه رئيسًا “للجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة” ومشرفًا على موسوعة “مصر والقضية الفلسطينية” مراسلات لدار الوثائق ولوزارة الدفاع للاطلاع على وثائق حربي 67 و1973. وكذا عندما كان رئيسًا للجمعية التاريخية المصرية للغرض نفسه. وجاءت الردود إما بالاعتذار عن الاستجابة ودون إبداء أسباب، أو بعدم الرد على المراسلات وإهمالها.

تهديد بالمنع

من السفر لقطر

طالما قال شيخ المؤرخين المصريين الراحل لي، وبالطبع لغيري، باستحالة كتابة تاريخ حقيقي عن هزيمة 1967 يحدد: من المسؤول؟، مع استمرار حجب وثائق الدولة المصرية. ويظل مدهشًا أن تكلف الدولة مؤرخين مشهود لهم بالوطنية والكفاءة العلمية وتحت سقف مؤسساتها الثقافية الرسمية بكتابة التاريخ فيما تمنع عنهم وثائقها، وعلى الرغم من مرور كل هذه السنوات الطوال.

والمؤسف أن هذا العبث تتوالى فصوله وعلى مر الزمان وكأنها بلا نهاية. ومصداق هذا ما رواه لي الدكتور “غنيم” بالتفاصيل عن حكايته المدهشة البائسة مع “لجنة كتابة تاريخ ثورة يوليو”، التي أعلنها وشكلها “السادات” منتصف السبعينيات، ودون أن يصدر منها أو عنها للجمهور ورقة واحدة.

قال إنه وجد نفسه مع عدد من أساتذة التاريخ عضوًا في اللجنة العسكرية دون استشارة أو استئذان منهم، وهي برئاسة أحد لواءات الجيش. لكن لم يسمح لأي من هؤلاء الأساتذة أعضاء اللجنة بالاطلاع على أي وثائق، وحتى تلك المتعلقة بالأسلحة الفاسدة في حرب 1948.

وروى كيف كان يأتي اثنان من الضباط لاصطحابه إلى اجتماعات اللجنة في عربة عسكرية؟، فيجلس أحدهما على يمينه والآخر على يساره في المقعد الخلفي. ويدخلون به إلى مبنى مجهول، ليقابله كل بضعة أمتار جندي شاهرًا سنكي بندقيته.

وتحدث عن تكليف ضابطين رفيعين بإعداد كتاب عن حرب 67، وأنه وجد نفسه مطالبًا بمراجعة مسودة الكتاب، فوضع تقريرًا لرئيس اللجنة انتهى إلى عدم صلاحيته للنشر، وكونه لا يعتمد على وثائق مصرية.

ولأنه كان متوجهًا بعد أيام لإعارة تدريس بجامعة قطر، فقد نصحه عميد كلية آداب “عين شمس” بين 78 و1980 الدكتور “جمال زكريا” بالتراجع وإجازة الكتاب للنشر مع كتابة مقدمته بنفسه، وحتى لا يتعرض سفره للإلغاء. لكنه لم يعمل بالنصيحة، وقدم استقالته من اللجنة في صمت، ورفض تقاضي مليمًا واحدًا عن أعماله بها. ولحسن حظه، سافر بالفعل، ولم يصدر الكتاب.

ولليوم ما زلت أذكر قوله رحمه الله:” قل لي كيف نكتب التاريخ في هذه الظروف؟”.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان