حكايات فلسطينية من ماسبيرو

عاشت قضية فلسطين طويلا في وجدان الإعلاميين المصريين الذين عملوا في اتحاد الإذاعة والتليفزيون المصري منذ نشأة ماسبيرو في يوليو 1960 حتى ثورة يناير 2011، وإن بدأ الاهتمام بالقضية الفلسطينية يخفت في أواخر عهد مبارك، ولكن لم يتم هذا بشكل صريح خوفا من غضب القوى السياسية حينذاك وتمسك الكثيرين من أبناء ماسبيرو بقضيتهم التي تربوا على كونها القضية الأم.
عيد الإعلاميين
كانت مناسبة عيد الإعلاميين المصريين في 31 مايو من كل عام واحدة من محطات استعراض الإعلاميين المصريين لمساهماتهم في الأعمال البرامجية التليفزيونية، وكان الاحتفال -حتى عام 2002 نهاية عهد وزير الإعلام صفوت الشريف- مناسبة ضحمة يحضرها رئيس الجمهورية، ويتم فيها تكريم رواد العمل الإذاعي والتليفزيوني في مصر.
منذ يومين احتفل العديد من أبناء ماسبيرو بعيد الإعلاميين على وسائل التواصل الاجتماعي، واخترت أن أشارك الإعلاميين عيدهم كواحد من أبناء ماسبيرو عبر ذكر بعض المساهمات التليفزيونية عن فلسطين التي لم تغب عن الوجدان والقلب منذ بداية الوعي في الصبا عن طريق أغاني عبد الحليم حافظ وحتى هذه اللحظات التي ينقلنا فيها العقل والقلب كل لحظة إلى أراضينا في غزة والضفة الغربية والقدس.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
تسليم سلاح المقاومة!.. ماذا تبقى للوطن؟
عايزين عايزين يا جمال عايزين
الوحدة الوحدة لأراضينا
نرجع وياك للقدس هناك
ولحيفا ويافا تطوف بينا
هكذا كان يغني عبد الحليم حافظ في أغنية مطالب شعب من تأليف الشاعر أحمد شفيق كامل وتلحين الموسيقار كمال الطويل، وهكذا في حلم صبايا كان حلم تحرير القدس وحيفا ويافا، وكان أول عمل تليفزيوني لي بعد تعيني في ماسبيرو عن ثورة يوليو 1952، سهرة وثائقية عن ما تبقى من الثورة بعد 42 عاما من قيامها، وكان لابد من التطرق إلى علاقة يوليو وناصر بقضية فلسطين، وقد تحمس القائمون على القناة للفكرة وإنتاجها، ورغم المساحة التي أفردتها لقضية فلسطين لم أجد أي ممانعة من الإدارة في ماسبيرو.
كان معظم قيادات ماسبيرو يعطون أولوية كبيرة لكل عمل يسعى إلى زيادة الوعي بفلسطين ومكانتها لدى مصر والمصريين، وكان الإعلاميون من مخرجين ومعدين يتسابقون في تقديم أعمال مع كل مناسبة فلسطينية، في الانتفاضة الأولى 1987، والانتفاضة الثانية 2003.
كانت أغلب شاشات ماسبيرو وقنواته تعمل ليل نهار في تأجيج المشاعر المصرية مع أحداث الانتفاضة، أتذكر مشهد استشهاد محمد الدرة الذي تحول إلى أيقونة داخل مبني ماسبيرو العتيق، وتحول ماسبيرو مع يوميات الانتفاضة إلى خلية نحل تعمل بالتوازي مع تطورات المشهد في القدس وفلسطين.
كان الفنان المصري إيمان البحر درويش قد سبق الانتفاضة الثانية بألبوم أغاني بعنوان (أذن يابلال)، وكان الألبوم كاملا عن فلسطين، ولم يصور إيمان -شفاه الله- أغانيه فيديو كليب، لكننا أخذنا شريط الصوت وحولناه إلى فيديوهات مصورة كانت كل اللقطات منتقاة من أحداث الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) والانتفاضة الثانية، وأظن أن مكتبة ماسبيرو لا تزال تحتفظ بهذه الاشرطة، وبالطبع كانت أغنيات (زهرة المدائن) لفيروز، والمسيح لعبد الحليم حافظ، وأخي جاوز الظالمون المدى لعبد الوهاب، وأصبح عندي الآن بندقية لأم كلثوم، ضمن المادة التي حولها مخرجو ماسبيرو إلى فيدوهات مصورة في تلك الأيام.
عرائس فلسطين في مهرجان ماسبيرو
كان المهرجان العربي السنوي لاتحاد الإذاعة والتليفزيون الذي يقام كل عام مناسبة كبيرة وضخمة يهتم بها ماسبيرو ويحشد لها من كافة أقطار الوطن العربي، وفي عام 2001 قررت إدارة المهرجان عمل مسابقة خاصة سنويا للفيلم التسجيلي واختاروا أن يكون أول موضوع في المسابقة عن فلسطين.
كان على المؤلفين والمخرجين من كافة الدول المشاركة في المهرجان أن يقدموا فيلما عن القضية الفلسطينية، وكانت تلك المشاركة الثانية لي في المهرجان حيث قدمت في العام الذي سبقه فيلما بعنوان (دماء على الأسفلت) عن حوداث الطرق في مصر بعد تزايدها بشكل كبير، واخترت في هذا العام أن أشارك بفيلم وثائقي عن الفتيات الفلسطينيات اللاتي قمن بعمليات فدائية في الأرض المحتلة مثل وفاء أدريس، وسناء محيدلي، ودارين بوعايشة، وقدم الفيلم حكاية اللاتي اخترن طريق المقاومة المسلحة كطريق لتحرير الأرض.
عرائس السماء شارك في المسابقة وقد اخترت المزج بين الدراما والوثائقية من خلال مصور صحفي وفنان تشكيلي قرروا تقديم بورترية عن هؤلاء الفتيات وحياتهم واختيارهم للكفاح المسلح كعنوان للتحرير، وكانت قناة النيل للأخبار قد قدمت فيلما يحكي عن معاناة المرآة المصرية تحت الاحتلال.
يبقى حرص سياسة ماسبيرو أن تظل فلسطين بكل وسائل الحصول على حقوقها وتحرير في وجدان أبنائه ومتلقيه، وهذا يعني بقاء قضيتنا حية في العقل والوجدان.
استدعاء في منتصف الليل
استمرت قضية فلسطين وتحريرها حاضرة في معظم ما قدمت خلال مشوار عمل تليفزيوني استمر نحو 30 عاما. فقد قررنا في القناة الثالثة عام 2002 تقديم يوم تليفزيوني كامل عن فلسطين، وكان العنوان القدس لنا، وقد نفذه عدد من زملائي المخرجين بالقناة الثالثة الذين شاركتهم العمل سنوات عديدة، وكانوا كتيبة إعلامية متميزة فكرا وعملا وانتماءً.
وبينما كنت أنهي التحضيرات مساء لصبيحة اليوم الثاني، إذ بإدارة القناة تتلقى اتصالا بإلغاء الاحتفالية. وأذكر أن رئيسة القناة حينها نجوى عزام، ومديرعام البرامج الثقافية نانو حمدي ناضلا كثيرا من أجل خروج الاحتفالية بعد أن حصلا على الموافقة لها وتكون مدتها ساعتين فقط، ولا أنسى في ذلك اليوم اتصالا من رئيس التليفزيون سهير الاتربي مرتين، قبل البدء، وقبل الختام، وهو موقف كان غريبا على ماسبيرو في ذلك الوقت.
في نفس العام تغيرت قيادات القناة الثالثة وجاءت قيادة أخرى وقد بدا سمة تغير في سياسات القناة للانتقال من الاهتمام بالثقافة والسياسة إلى الاهتمام بالترفية والمنوعات، وألغيت الأيام الثقافية، مما دفعني لتقديمها بالقناة الثقافية مع جمال الشاعر، كنت أقدم الأيام الثقافية معه بكل حرية، وقدمت في الثقافية معظم شعراء وأدباء المقاومة، واستمر عملي في القناة الثالثة كأحد أبنائها.
حدث في ذلك العام حصار الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله من جانب جيش الاحتلال الصهيوني، ومع تزايد الأزمة في رام الله كان الموقف المصري قويا مع فلسطين وأبو عمار.
أتذكر استدعائي فور حدوث الحصار من جانب قيادات ماسبيرو لأكون مخرج القناة الثالثة الذي يقدم الدعم الفني في مواجهة هذا العدوان الصهيوني، وكان واضحا أن قيادة ماسبيرو تسعى لتقديم رسالة دعم قوية لفلسطين، وقد كان، لتبقى فلسطين حية في قلوبنا وقلوب كل الإنسانية حتى تحرر من البحر إلى النهر.