الفاشية الفرنسية.. نبيذ قديم في زجاجات جديدة

في عام 1848، أعلن مؤسسا النظرية الطبقية الثورية، كارل ماركس، وفريدريك إنجلز، أن “شبحا يطوف في أوروبا، ألا وهو شبح الشيوعية”، غير أن فرنسا هذه المرة بالذات، على موعد مع شبح جديد، هو شبح “الفاشية الجديدة”.
فرنسا التي يفصل بينها وبين الدورة الأولى للانتخابات التشريعية أيام قليلة، والمقررة في 30 من شهر يونيو/حزيران الجاري، باتت محط الأنظار بعد أن تصدّر اليمين الفاشي، حليف مجرم الحرب نتنياهو، استطلاعات الرأي مدفوعا بنجاحه الكبير في الانتخابات الأوروبية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعادَ برهامي للتشويش فعُدْنا للبيان
هل يحدد عمر الإنسان مستوى السعادة والتعاسة؟
“ماركات” تحت المجهر: من يصنع الثراء؟ ومن يبيعه؟
ووفقا لاستطلاع أجراه موقع “لو بوان” الإلكتروني، حصل حزب الجبهة الوطنية المتطرف على 33% من الأصوات، وتحالف اليسار على 28%، مما دفع تحالف ماكرون (الوسط) إلى المركز الثالث بحصوله على 18%.
والطبعة الفرنسية لهتلر وموسوليني، هو جوردان بارديلا، شاب لا يتعدى عمره 28 عاما، وبات يتمتع بحظوظ كبيرة لتولي منصب رئيس الوزراء، في أحد أهم البلدان داخل الاتحاد الأوروبي.
بارديلا، ابن لعائلة إيطالية، هاجرت إلى فرنسا بحثا عن العمل، واستقرت في حي شعبي ببلدية “درانسي” في ضاحية “سان سان دوني” التي تعج بالمهاجرين، تبنته زعيمة حزب الجبهة الوطنية ماري لوبان، بعد أن اكتشفت مواهبه كقائد سياسي.
ورغم عنصريته الفجة، فإنه حلو الكلام ويضع على وجهه دائما ابتسامة بلهاء، ويرتدي رداء المدافع عن “الأمة الفرنسية”، التي تشهد -حسب رأيه- غزوا من الأغيار، رغم أن بعض المتخصصين في علم الأنساب يشيرون إلى أن له أصولا جزائرية، حسب ما أورد موقع “فرنسا 24”.
بارديلا أوضح في خطاب متلفز توجهاته الرئيسية “نحن ملتزمون بفرنسا أولا، وسيادتها وأمنها”، وتعهد بدفع قانون الهجرة الذي يسمح بطرد “الجانحين والإسلاميين”، وبحماية “صناعاتنا ومزارعينا من المنافسة غير المشروعة”.
ولم ينس أن يدغدغ مشاعر الجماهير، قائلا “سنعيد النظر في قوانين التقاعد والضرائب”، وسنلغي “قانون الأرض”، الذي يسمح بمنح الجنسية للأشخاص المولودين على الأراضي الفرنسية من أبوين أجنبيين.
وفي المقابل، أيقظ الخطر الفاشي روح المقاومة لدى أحزاب ونقابات وحركات معادية للعنصرية وداعمة لفلسطين.
وتَشكَّل على الفور تحالف يساري، خرج بدوره من دفاتر تاريخ مواجهة الفاشية في أربعينيات القرن الماضي، أُطلِق عليه “الجبهة الشعبية الجديدة”.
ورغم أنه خطوة إلى الأمام، فإنه يعج بالمتناقضات، فهو يعارض الليبرالية المتوحشة ويدافع عن الإصلاحات الاجتماعية، لكن من بين مرشحيه الرئيس الاشتراكي السابق فرانسوا هولاند، الذي مهدت هجماته على العمال والقوانين القمعية التي سنها الطريق أمام ماكرون والفاشيين.
وبينما يدعم قيام دولة فلسطينية ويدعو الى وقف تصدير السلاح إلى دولة الاحتلال، لكنه في الوقت نفسه يدين عملية طوفان الأقصى وحركة حماس.
ولكن قبل أن نلقي الضوء على الزلزال السياسي الذي أحدثه صعود الفاشية في فرنسا، نستعرض في عجالة أسباب عودة الفاشية مجددا، وطبيعتها ودورها التاريخي.
الفاشية.. نظرية الأزمة
والفاشية أو فاشست -حسب ويكيبيديا- كلمة لاتينية قديمة تعني “الحزمة”. وفي التاريخ الإيطالي تشير الكلمة إلى حزمة العصي، التي كانت تستعملها الإمبراطورية الرومانية للدلالة على القوة والحزم في إحلالها للعدالة. موسوليني وحزبه أيضا استعملوا حزمة العصي التي تحيط بفأس واحد شعارا للحزب الفاشي.
وتظهر الفاشية، حسب المفكر الثوري ليون تروتسكي، إما عند دخول برجوازية دولة ما أزمة بنيوية مستعصية، وإما استباقا لثورة اجتماعية حقيقية، كما حدث في إيطاليا موسوليني عام 1929، وفي ألمانيا هتلر عام 1933.
وتتميز الفاشية بقدرتها، في شروط تنامي ضغط التناقضات الاجتماعية الاقتصادية بشكل لا يُحتمل، على حشد قطاعات من صغار الملاك والطبقة الوسطى وشرائح من العمال، التي يبهرها زعيم ذو سلطة نفسية خارقة، وتتسلح بقطاعات من الطبقة الرأسمالية وجهاز دولتها لتحطيم الحركة الجماهيرية من خلال الإرهاب الدموي والتهويل.
وكانت النزعات الفاشية قد تراجعت بقوة في فترة الرواج الطويلة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لكن عودة الأزمة، التي اتخذت مظاهر مختلفة الحدة من بداية الثمانينيات، كان أقواها أزمة الائتمان عام 2008، أنعشت الحركات والمنظمات الفاشية مجددا.
وتتباين أشكال هذه المنظمات بين الميليشيات التي تقوم بالاعتداء على المهاجرين والأقليات، وأحزاب أقصى اليمين التي يتسامح معها النظام السياسي، مثل الحزب القومي البريطاني وحزب الجبهة الوطنية في فرنسا.
ويقول المفكر الفرنسي آلان جريش في حوار مع موقع جدلية “بالتدريج صارت الفكرة التي أطلق عليها اليمين المتطرف ‘الاستبدال الكبير’ مركزية، ومفادها أن المهاجرين وخاصة المسلمين حلّوا مكان الشعب الفرنسي”.
ويؤكد المراقبون أن صعود نجم الفاشية الفرنسية من شأنه أن يغذي العنصريين، بدءا من أنصار ترمب في الولايات المتحدة، نهاية باليمين الفاشي الصهيوني.
ماكرون يعبّد الطريق للفاشية
ويلفت المفكر المناهض للعنصرية في باريس، دينيس جودار، الانتباه الى أن “ماكرون وعد بأن يكون جدارا ضد حزب الجبهة الوطنية، لكنه بدلا من ذلك كان بمثابة جسر نحو السلطة بالنسبة لهم”.
ويوضح أن فرنسا لم تشهد منذ تأسيسها حالة مشابهة من الفوضى، مثلما شهدت على يد ماكرون، رغم أنه رفع شعار “أنا أو الفوضى”، وتبني سياسات الليبرالية المتوحشة، التي أدت إلى تدهور الخدمات، وفشل في وقف الهجمات الإرهابية.
لم يكتف ماكرون بذلك، بل مرغ أنف جمهورية “الإخاء والمساواة” في التراب، بمغازلة اليمين المتطرف، فتحالف معه قبل شهور قليلة ليصدر قانونا عنصريا بامتياز للهجرة.
كما عززت حكومته سلطات الشرطة، وحظرت بعض المظاهرات الفلسطينية، ونفذت جولات من الإجراءات المعادية للإسلام.
وخارجيا، ومنذ عملية طوفان الأقصى، دعمت فرنسا “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”، وهو نفس موقف اليمين المتطرف.
زلزال سياسي
ويبدو أن ماكرون أراد بقرار الحل الصادم للجمعية الوطنية واجراء انتخابات مبكرة، أن يثير حالة من الذعر داخل المجتمع الفرنسي، وكذلك أن يُظهر عجز الجبهة الوطنية -في حال فوزها- على مواجهة المشكلات المستعصية، فيقضي على مستقبلها السياسي قبل الانتخابات الرئاسية المقبلة.
وبغضّ النظر عن نتيجة مقامرة ماكرون، فقد شهدت الساحة السياسية أياما من الاضطراب، فطُردت ماريون ماريشال ابنة أخت زعيمة الفاشيين لوبان من حزب يميني متطرف منافس، لدعوتها الناخبين إلى التصويت لصالح حزب الجبهة الوطنية.
وأعلن زعيم حزب الجمهوريين المحافظ إريك سيوتي عن تحالف انتخابي مع الفاشيين، وفي غضون 48 ساعة استثنائية، جرى استبعاده من قيادة الحزب، لكنه نجح في وقف عزله، وهو ما دعا المراقبين إلى القول إن “المحافظين يتحللون مع صعود الفاشيين”.
وعلى اليسار، تشكل على عجل تحالف “الجبهة الشعبية الجديدة” الذي ضم الاشتراكيين والخضر والشيوعيين وحزب فرنسا الأبية، إلى جانب النقابات العمالية والجماعات المناهضة للعنصرية والمؤيدة لفلسطين إلخ.
وجاءت الضغوط لإبرام هذا التحالف بشكل رئيسي من القواعد، وطالب الشباب والمهاجرون والعمال قادتهم بالاجتماع معا لمحاربة الفاشية، ونجحوا في تنظيم مظاهرات حاشدة يوم السبت الماضي، شارك فيها أكثر من نصف مليون فرنسي.
وقالت الكونفدرالية العامة للشغل (أعرق منظمة نقابية في فرنسا) إن 640 ألف شخص شاركوا في المظاهرات، من بينهم 250 ألفا في العاصمة باريس، مشيرة إلى أن الناس خرجوا في معظم المدن والبلدات الكبرى لإظهار أنهم لن يسمحوا بانتصار الفاشية.
في حين حذر قادة الجبهة الشعبية الجديدة من أن اليمين المتطرف “على أعتاب الحكم”، داعين أنصارهم إلى “حشد صفوفهم والخروج للتصويت”.
وقالت الأمينة العامة لحزب الخضر مارين توندلييه “سنخمد شعلة التجمع الوطني. إما نحن وإما هم”.
وربطت المحامية الفرنسية الفلسطينية ريما حسن، التي انتُخبت نائبة في البرلمان الأوروبي الجديد، بين محاربة النظام الفاشي والعنصري والدفاع عن فلسطين بصفتها قضية ترتكز على “مناهضة العنصرية وإنهاء الاستعمار”.
وعبّر نجم منتخب الديوك كيليان مبابي عن موقفه حيال الانتخابات التشريعية قبل المباراة الافتتاحية لمنتخب فرنسا ضد النمسا في كأس الأمم الأوروبية 2024، قائلا “لا أريد أن أمثل دولة لا تتوافق مع قيمي وقيمنا”.
مبابي المعروف بتصريحاته الإعلامية المؤثرة، أكد أنه ضد التطرف وضد الأفكار المسببة للانقسام، ودعا الشباب إلى التصويت ما دامت هناك فرصة لاختيار مستقبل فرنسا.
وقالت جماعة مناهضة للعنصرية، تدعى “مسيرة التضامن”، في بيان لها “ما نحتاج إليه هو الوحدة ضد العنصرية والفاشية، الوحدة بين مناهضي العنصرية وأولئك الذين يناضلون من أجل فلسطين وضد الاستعمار الفرنسي في كاليدونيا الجديدة، بين أولئك الذين انتفضوا قبل عام ضد عنف الشرطة وملايين العمال الذين ناضلوا ضد الهجوم على المعاشات”.
وتردد الدعوات المطالبة بإنشاء جبهة شعبية، لمواجهة صعود الفاشيين، صدى التطورات السياسية والاجتماعية التي حدثت في ثلاثينيات القرن العشرين، على خلفية الكساد العظيم عام 1929، وما صاحبه من تغلغل للأفكار الفاشية في فرنسا.
ويومها أيضا، شكَّل القادة الاشتراكيون والشيوعيون تحالف الجبهة الشعبية في يوليو/تموز 1935، وبعد حملة تخللتها مظاهرات كبرى واضرابات مهمة شلت فرنسا، فازت الجبهة الشعبية في انتخابات 26 إبريل/نيسان و3 مايو/أيار 1936.
لكن دروس التاريخ تُذكّرنا أيضا بأن فوز الجبهة الشعبية حينئذ لم يعنِ نهاية المعركة، بل استولى الفاشيون على الحكم بعدها بأربع سنوات فقط نتيجة خيانة الحكومة اليسارية لمطالب الجماهير، فهل يعي شباب وعمال ومهاجرو اليوم الدرس، ويستخدمون الانتخابات لوقف قطار اليمين المتطرف، ولتفعيل مقاومة قاعدية للفاشية ولسياسات التقشف؟ الأيام المقبلة ستجيب.