مئوية أول اغتيال صهيوني لشخصية يهودية بفلسطين

الشرطة الإسرائيلية تتصدى لمظاهرات الحريديم (غيتي)

تقود فقرة في كتاب ” غزة في أزمة” للمفكر الأمريكي “ناعوم تشومسكي”، شفاه الله، مع المؤرخ اليهودي أيضا “إيلان بابيه” ” إلى تأمل أول اغتيال سياسي ارتكبه الصهاينة ضد يهودي على أرض فلسطين، حين قامت عصابة “الهاجاناة” بقتل الشاعر الأديب والمحامي والصحافي والسياسي “جاكوب إسرائيل دي هان” يوم 30 يونيو/ حزيران 1924.

في الصفحة 129 من الطبعة الثانية للكتاب الصادرة عن دار “هاي ماركت” التقدمية المستقلة في “شيكاغو”، يقول “تشومسكي”:” كان هدف الصهيونية من البداية بعد تقارب (دي دهان) مع اللجنة العربية العليا برئاسة الحاج “أمين الحسيني” هو تأكيد حجتها وتبريرها الأيديولوجي من أجل استمرار التوسع الاستيطاني: لا يوجد شريك سلام فلسطيني أمامنا”.

الانشقاق بعد اكتشاف

خديعة الصهيونية

بحلول 1919 وبعد أقل من عامين على “وعد بلفور” الاستعماري “بوطن قومي لليهود في فلسطين”، جاءها “دي هان” الحاصل على الدكتوراة في القانون مهاجرا من مسقط رأسه ووطنه هولندا، والمولود 1881.

ووفق دراسة موثقة للباحث والفنان البريطاني “جوناتان وايت” بالمجلة الفصلية “جيروزاليم كوارترالي”، عدد 87 خريف 2021، فإن “دي هان” تحول عن الصهيونية بعد وصوله إلى فلسطين وإقامته بها، وتعرفه على الحقائق فوق أرض الواقع.

وبدأ يجاهر بما اكتشفه عن استبدادية الحركة الصهيونية وضلالها، وطغيان قادتها واضطهادهم حتى لليهود من أهل وابناء فلسطين “اليوشوف القديم”، والمتعايشين آنذاك كأقلية في سلام مع مواطنيهم المسلمين والمسيحيين والدروز. وكان إجمالي عدد اليهود بها يقدر حينها بنحو 50 ألفا، ويشكلون 9% من إجمالي السكان.

كتاب جديد

من هولندا

قصة تحول “دي هان” قامت بتحقيق تفاصيلها ووثقتها المؤرخة الهولندية “لودي جيبلز” في دراسة أخرى منشور باللغة الإنجليزية. ويمكن اعتبارها متخصصة في سيرة الرجل، وحيث صدر لها هذا الشهر (يونيو/ حزيران 2024) كتاب باللغة الهولندية من مطبعة جامعة “أمستردام” بعنوان: “يعقوب إسرائيل دي دهان في المتاهة الفلسطينية 19 ـ 1924”.

واستنادا إلى دراسة “جيبلز” المنشورة 2014 بعنوان “هل كان ضحية أول اغتيال صهيوني هو لورانس العرب اليهودي؟”، فقد اكتشف “دي هان” عدوانية الأيديولوجية الصهيونية، وأصبح يعارض بالكتابة وفي الصحف وبالعمل السياسي إقامة “وطن قومي ودولة لليهود” في فلسطين بعد نحو العامين فقط من وصوله إليها.

وكمحامي شتان بين وقوفه 1920 أمام محاكم سلطة الانتداب البريطاني بالقدس مدافعا عن إرهاب الصهيوني “جابوتنسكي” وجماعته المتطرفة وبين مرافعاته أمام ذات المحاكم 1922 لإلغاء ضريبة على صنع فطائر”عيد الفصح” اليهودي فرضها القادة الصهاينة بدعم من الانتداب.

وفي العام الأخير نفسه نقلت عنه الصحف الإنجليزية مهاجمته للصهاينة وممارساتهم العنيفة ضد العرب، ومعظم اليهود في فلسطين، وذلك عند ترأسه وفد حركة “أجودات إسرائيل” لليهود المتدينين “الأشكناز” من وسط وشرق أوروبا “الحريديم” حين كانت معارضة للصهيونية، لمقابلة بارون الصحافة اللورد “نورثكليف” مؤسس جريدة “الدايلي ميل” البريطانية خلال زيارته للقدس. وإذ كان الصهاينة بفلسطين مازالوا، وفق المؤرخة الهولندية، أقلية الأقلية هناك بعد اليهود الفلسطينيين وأولئك المقيمين لأغراض دينية توارتية غير سياسية أو قومية.

لما جاء الثلاثون

من يونيو 1924

كان “دي هان” يستعد قبل اغتياله لمغادرة فلسطين بعد أيام إلى لندن لمخاطبة مجلس العموم للمطالبة بإلغاء “وعد بلفور”، هذا الصهيوني غير اليهودي، ولفضح انحياز سلطة الاستعمار(الانتداب) البريطاني بفلسطين للحركة الصهيونية، لكن شابا في صباح يوم الجريمة اعترض طريقه عند خروجه من “كنيس” بعدما أنهى الصلاة ليسأله: كم الساعة؟ ثم أخرج مسدسا وعاجله بثلاث رصاصات قاتلة في الصدر، وفر من المكان، ومع تواطؤ شرطي بريطاني.

ولسنوات حاولت الدعاية الصهيونية إشاعة أكاذيب بأن القاتل عربي، والتشويش بالحديث عن ميول الضحية الجنسية (البيدوفيليا أي التحرش بالأطفال)، وتقديم الاهتمام بها على الاغتيال، أو حتى بإبراز مشاركة قادة صهاينة في مراسم دفن ضحيتهم، وكما يقول المثل المصري: “يقتل القتيل ويمشي في جنازته”.

لكن بحلول عام 1952 صرح “يوسف هشيت” أول قائد “للهجانة”، المنظمة الإرهابية الصهيونية المسلحة الأكبر قبل 1948 ونواة تأسيس الجيش الإسرائيلي، بتخطيطها وتنفيذها لعملية الاغتيال، وبأن عضو المنظمة “أفرام تيهومي” هو القاتل.

وفي نوفمبر 1970، ظهر “تيهومي” بنفسه في التلفزيون والإذاعة الرسميين لإسرائيل ليعلن بفخر إنه القاتل ولا ندم، وكون قرار الاغتيال جاء من أعلى مستوى سياسي بالحركة الصهيونية، ومشيرا إلى “إسحق بن تسيفي” ثاني رئيس “للدولة”، الذي توفى 1963.

“الخائن” عند الصهيونية

يطالب بدولة عربية

وجاء الاغتيال بعدما كتب “دي هان” وعمل من أجل مستقبل فلسطين في دولة عربية مستقلة تضم وترعى الأقليات، بما في ذلك اليهود، وبأفق الاتحاد مع شرقي الأردن. كما أصبح ملحوظا اهتمام قراء الإنجليزية بأنباء عرائضه “لعصبة الأمم” ومراسلته الصحفية “للديلي إكسبرس” وتحليلاته الناقدة للسياسات الاستعمارية الصهيونية في فلسطين، ولذا وصمه الصهاينة بأنه “خائن القومية اليهودية”.

وتفيد دراسة “وايت” بأنه نشر بجرأة معلومات عن أعداد اليهود المهاجرين إلى فلسطين بين 1917 و1923 تناقض ترويج وتهويل الدعاية الصهيونية كي تشجيع هذه الهجرة من أوروبا.

وإجمالا يؤخذ الاغتيال في سياق أشمل، هو تاريخ العنف بين الحركة الصهيونية وخصومها ونقادها من اليهود، بل وبين أجنحة وتنظيمات الحركة ذاتها، والذي يمتد من أوروبا إلى أرض فلسطين.

ومن بين أبعاده التي تنبهت إليها موسوعة “اليهود واليهودية والصهيونية” للدكتور المسيري، ما يتعلق “بحرب اللغة” لإجبار يهود وسط وشرق أوروبا للتحول عن لغتهم “اليديشية” إلى “العبرية”، والهجرة إلى فلسطين ولو قسرا.. أي “ترانسفير اليهود” و”الخلاص الجبري”، وهو التهجير الذي استهدف لاحقا في الخمسينيات بالهجمات الإرهابية في منطقتنا يهود العراق ومصر واليمن.

إحياء الذكرى

في برلين

ولعل اغتيال الصهاينة لليهودي المتدين “دي هان” له حضور ما عند جماعة “ناطوري كارتا” لليهود “الحريديم” المتدينين المناهضة للصهيونية، التي تكثف نشاطها وفعالياتها بالقدس ونيويورك وغيرها منذ عملية “طوفان الأقصى” ومع حرب الإبادة على غزة مطالبة بفلسطين من النهر إلى البحر والقضاء على الصهيونية. ولأن ضحية هذا الاغتيال الصهيوني بدوره أحد رموز الأدب والثقافة بأوروبا بدايات القرن العشرين فهو محل اهتمام بين اليهود العلمانيين مثل المتدينين.

وبمناسبة حلول مئوية اغتيال “دي هان” تشهد برلين غدا وبعد الغد 26 و27 يونيو/ حزيران 2024 مؤتمرا دوليا لإحياء هذه المئوية بالأكاديمية الكاثوليكية هناك. ويشارك في أعماله باحثون شباب، أغلبهم من اليهود. ويجرى افتتاح المؤتمر بعرض أول فيلم وثائقي/ تسجيلي عنه بعنوان:” الزائر: ألغاز حياة ومقتل دي هان”.

وأظن أصبح على عاتق العرب، وأقصد أولئك المناهضين للصهيونية، التفكير في الاستثمار ثقافيا وسياسيا وإعلاميا في عام تلك المئوية المهمة ولما بعدها.

ولا أعرف هل فكرت مؤسسة بحثية معنية أو دبلوماسية عندنا في هذا؟ ولو بمبادرة إرسال برقيات تعازي تذكر باغتيال “دي هان” على هذا النحو إلى وزارة الخارجية الهولندية وبعثاتها الدبلوماسية ونظيراتها في الاتحاد الأوروبي.

وهل نشهد قريبا إصدار كتاب عنه باللغة العربية مؤلفا أو مترجما؟، ونرى من يهتم بمخطوطات كتاباته ومراسلاته لمفكرين وأدباء عالميين والمؤرشفة بجامعة “أمستردام” لفائدها بشأن حقيقة الصهيونية وما فعلته ومبكرا بفلسطين وشعبها، وباليهود أيضا.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان