تداعيات العزلة الإسرائيلية وتأثيرها في مستقبلها الوجودي

دمار واسع في مخيم النصيرات بعد عملية استعادة الأسرى
دمار واسع في مخيم النصيرات بعد عملية استعادة الأسرى (رويترز)

حالة من السعار غير المسبوق أصابت حكومة الحرب الإسرائيلية بقيادة نتنياهو لتحقيق أي انتصار ولو كان وهميًا، ليقدمه لشعبه بعد إخفاقات استمرت لثمانية أشهر، وتدخل في شهرها التاسع مصحوبة بانقسامات خطرة لا تهدد مستقبله السياسي وحسب، وإنما تهدد حريته من الأساس.

فزادت وتيرة المذابح ليقتل ويصيب ما يقرب 700 إنسان في مخيم النصيرات وحده على مرأى من العالم ومسمع.

وفي الوقت الذي تبارى فيه الإعلام الصهيوني والإعلام المتصهين لتصوير الجريمة على أنها بطولة وانتصار منقطع النظير انتفض الشارع الإسرائيلي بعدما قرأ الحدث والمشهد بطريقة حاول النظام أن يزيفها، وفشل في ذلك مثلما فشل فشلًا ذريعًا في حربه الطويلة على قطاع غزة وضد جيش غير نظامي.

انتفض الشارع الإسرائيلي وقد أدرك أن النظام أغلق الأبواب كافة بتلك العملية الإجرامية في سبيل إنقاذ بقية الأسرى بمفاوضات سهلة، وهو يعلم جيدًا أن المفاوض الفلسطيني مفاوض عنيد، ويعمل جيدًا لصالح قضيته ومن الصعب شراؤه أو تخويفه، وأنه ما كان ممكنًا بالأمس صار صعبًا اليوم، فتعلّق صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن مسؤولين إسرائيليين بتاريخ التاسع من يونيو 2024: “عملية النصيرات ستقلل من فرص إنقاذ رهائن إضافيين عبر عمليات عسكرية، وستزيد الحاجة إلى إبرام صفقة تبادل”.

إن قتل 275 فلسطينيًا مدنيًا وإصابة أكثر من 400 آخرين لإنقاذ 3 من الأسرى بعد 8 أشهر من حرب قاسية ليس انتصارًا في عرف الحروب، ولا يمكن أن يظل الإعلام الإسرائيلي في حالة من الزهو المزيف بعد انكشاف حجم الخسائر، ولن يستطيع أن يدافع عن نظامه أمام شعبه طويلًا بينما الأسرى أنفسهم مهددون بالموت تحت القصف الدائر، علاوة على العزلة السياسية على الكيان لأول مرة في تاريخه منذ إنشائه وغرسه في المنطقة.

الشعوب الغربية خارج السيطرة

ومنذ النصف الأول لحرب الطوفان فشلت آلة الإعلام الصهيوني والغربي في الكذب على الشعوب الغربية بنقل صورة مشوهة عن المقاومة، واستخدام قصص ملفقة عن أطفال مقطوعي الرؤوس وفتيات تم اغتصابهن، وما إلى ذلك من الأخبار التي تثير تعاطف الناس مع طرف ضد آخر.

فسرعان ما تنكشف الحقيقة ويسقط التدليس، وتتم صفقة تبادل الأسرى الأولى ليخرج هؤلاء يتحدثون عن الأخلاق التي لم يعرفوها من قبل، وتظهر الأسيرات المحررات وكأنهن لا يردن مغادرة غزة من فرط التكريم رغم تجويع ما تبقى من أهل القطاع.

ومن ثم انتفضت الشعوب الغربية وطالبت بمقاطعة الكيان لأول مرة تاريخيًا، ولتخرج دعوات ما كان الغرب ليجرؤ على النطق بها قبلًا، ثم تنتفض الجامعات التي ما زالت تنفث غضبها على الأنظمة التي تأتي بها انتخابًا واختيارًا حرًا، فتمزق الاتفاقيات العلمية والتجارية، وتهرع الدول للاعتراف بدولة فلسطين، ويدخل الكيان في عزلة عالمية إجبارية، وتشوه سمعة الجيش الذي طالما تشدقوا بأخلاقياته ليصير جيشًا من الإرهابيين والفارين بالرغم من الدعم المفتوح من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وبعض الأنظمة الأخرى، ولولا ذلك لانهار الجيش الذي لا يقهر منذ الأشهر الأولى للحرب.

ثارت الشعوب الغربية لتكشف المزيد من الوجه الكالح للكيان المجيش ضد أصحاب الأرض، ثم تتم إجراءات وإن كانت غير كافية بمحكمة العدل الدولية، ويتخذ مجلس الأمن القومي قرارًا بوقف إطلاق النار، وبعد أن كان حلفاء الكيان يؤيدونه تأييدًا مطلقًا ومعلنًا، خفت ذلك التأييد وصار يتم على استحياء نظرًا لفداحة الخسائر الإنسانية في غزة، وإن كان السبب الأول ليس السبب الإنساني، وإنما الغضبة الشعبية التي انطلقت من أنحاء أوروبا كافة، وتراجعت دول بعينها عن تصدير السلاح للكيان منها كندا على سبيل المثال التي تصدى شعبها لرئيس الوزراء واتهمته بالعنصرية ضد الأبرياء من الشعب الفلسطيني الذي تتم إبادته، وقد تابعنا كيف قطعت تركيا العلاقات التجارية والدبلوماسية مع الكيان، كما أعلن الرئيس الكولومبي مسبقًا قطع العلاقات الدبلوماسية كذلك حتى يتوقف العدوان تمامًا.

لقد فشل الحليف الأمريكي تمامًا في منع حالة العزل السياسي والعسكري على الكيان الصهيوني، ولم يعد ما يقدمه من دعم مطلق كافيًا لمساعدة الجيش الإسرائيلي في تحقيق إنجازات حقيقية رغم القتل بغير حساب في أقل وقت ممكن، ولم يعد السلاح الأمريكي كافيًا في ظل التدهور النفسي للمجند الإسرائيلي الذي يرى نزيفًا يوميًا من العتاد والعدة ليصير النصر وهمًا، ويصير الخروج من غزة حلمًا يحول دونه رغبة رئيس الوزراء في إنقاذ نفسه وكرسيه.

وماذا بعد “طوفان الأقصى”؟

كانت الأحاديث تدور حول اليوم التالي لوقف الحرب، من سيحكم القطاع؟ من سينزع السلاح من يد المقاومة؟ أين سيتم سجن قادة الحركة؟ وأين سيستبعد مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني؟ وبعد الدخول في الشهر التاسع للحرب لم يعد لتلك الأمنيات والأحلام مجال، بل صار الجميع يناشد القادة لقبول صفقة تبادل هشة للإفراج عن المعتقلين دون ضمان توقف الحرب أو معاودتها، لكن المفاوض العنيد الذي أخرج الطرف الأمريكي من منطقة الراعي الرسمي لعملية التفاوض، وأدخله في خانة العدو المباشر وحمّله مسؤولية المجزرة الأخيرة في النصيرات، والمشاركة فيها بشكل مباشر، واستخدام مينائه الإنساني المزعوم في توجيه الضربات صوب الأبرياء، ذلك المفاوض لم تعد تعنيه الصفقة بقدر ما تعنيه ضمانات كافية لوقف الحرب، وضمان عدم عودتها على الأقل في وقت قريب.

لقد غيّرت المجزرة الأخيرة مسار التفاوض، ووضعت الحلفاء الذين يبحثون عن خروج يحفظ ماء وجه قادة الكيان المنقسمين في حرج بالتقليل من الدور المنوط بواشنطن، وإسقاط هيبتها السياسية والكشف عن وجهها البشع باعتماد سياسة الكيل بمكيالين، فلم تعد أمام الشعوب الغربية صالحة لممارسة دور الزعيم الذي يحرك الأحداث بالأمر المباشر انطلاقًا من منطق القوة والعدل اللذين تتشدق بهما.

لقد وصلت الحرب إلى خط النهاية باستنفاد صبر حكومة الحرب الإسرائيلية، واليأس من أداء رئيس الحكومة وفشله، بل وفضحه وكشفه لقدرة جيش الكيان في تحقيق أي نصر حقيقي، ونفد صبر الشعب وذوي الأسرى في تحقيق أي تقدم في ملف أبنائهم، وازدادت الضغوط الدولية والداخلية على نتنياهو رغم محاولات إنقاذه الحثيثة في خطف الضربات، وقتل أكبر عدد ممكن وقنص أي نصر ولو مزعوم ليقدمه لشعبه الذي يستعد لمحاكمته بينما الانقسامات الداخلية كالسيف القاطع تسقط على رقبته واحدًا تلو الآخر.

ولم تعد الضغوط تحاصر رئيس الوزراء الإسرائيلي وحده، وإنما أصبحت تلاحق الرئيس بايدن في البيت الأبيض لدوره المشبوه أمام شعبه الغاضب من سياساته، لقد أصبح الجميع في ورطة، ولم يعد أحد يملك رفاهية الوقت ليقنع شعبه بالصبر أكثر ليأخذ الكيان فرصة أخرى في حربه الإجرامية، إن عجلة التاريخ لا تدار دومًا بالتخطيط والقوة الغاشمة، فهناك عناصر أخرى لا تدركها تلك الجيوش المغتصبة، عناصر تتعلق بالأخلاق والرحمة والإنسانية وقبل كل ذلك العقيدة، والعقيدة التي تحرك صاحب الأرض، ليست هي العقيدة نفسها التي تحرك المغتصب أو اللص، وأرى أن ما بعد معركة الطوفان لن يكون كما كان قبلها، فقد وضعت حسابات أخرى ترسخ لمفاهيم المقاومة الأكثر قوة والأكثر تنظيمًا والأكثر حنكة وخبرة وإمساكًا بزمام الأمور، ولن يؤثر ذلك في المستقبل السياسي للنظام في تل أبيب، وإنما على المستقبل الوجودي للكيان كله، ونراه قريبًا.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان