للصبر حدود

بعد قرابة ثمانية أشهر، لا يستطيع كائن من كان إنكار أن مصر مارست أقصى درجات ضبط النفس في التعامل مع عربدة الصهاينة وعبثهم بالاتفاقيات الدولية، وبينما تبدو مصر “الرسمية” أكثر حرصًا على الالتزام بكامب ديفيد فإن الصهاينة لا يكترثون، بل إن خرقهم لها لا يقتصر على ما قاموا به عند المعبر، فملامح المخطط الخبيث تبدو يومًا بعد يوم أكثر وضوحًا.
ومع تواصل الاستفزازات وتصاعدها، كنت أتصور -وما زلت على أمل- ألا يمر حادث الاشتباك الأخير عند معبر رفح مرور الكرام، لأسباب عدة ليس أقلها أن دماء جنودنا غالية وبلا ثمن يوازيها، مرحليًا -على الأقل- ينبغي أن يكون تصعيد موقفنا عبر الوسطاء والقنوات الخلفية مع ضرورة أن يكون قويًا ورادعًا يليق بمصر ومكانتها لوضع حد للتجاوزات التي تواصلت حتى إعلان جيش الاحتلال سيطرته الكاملة على ممر فيلادلفيا الاستراتيجي، الذي يمتد على طول حدودنا مع غزة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبلشي وسلامة.. معركة الصحافة و”اللا صحافة”
فيديو القسام لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين.. هل وصلت الرسالة؟
رسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
منذ بداية العدوان والتحرشات بمصر لم تتوقف لحظة واحدة، والمخطط الصهيوني لا يخفي نواياه الحقيقية، فعينه على سيناء بحجج واهية وادعاءات زائفة، وعبر العديد من أبواقه يواصل الضغط ويطالب السلطات بفتح الحدود لاستضافة اللاجئين الفلسطينيين الفارين من جحيم نيرانه، ومع تنبه القاهرة لأبعاد المؤامرة ظل موقفها قاطعًا في رفض الاستجابة، وقد كان لثبات الشعب الفلسطيني وتمسكه بأرضه دور بارز في إجهاض المخطط.
عين الصهاينة على سيناء
ينبغي علينا الانتباه أن الصهاينة لا يستهدفون الخلاص من أهل غزة وتصفية القضية وحسب، بل أطماعهم ما زالت قائمة في احتلال سيناء من جديد، وقبل أيام نشرت صحيفة “تايمز أوف إسرائيل” تقريرًا بعنوان “الفردوس المفقود” يبيّن إلى أي مدى يحنون إلى أرض الفيروز التي استعادتها مصر بعد مفاوضات شاقة عام 1979، وكتب الصحفي اليهودي يوشى يائير على منصة “إكس” يقول (إن 90% من الإسرائيليين يعتبرون سيناء أرضهم تنازلوا عنها مقابل السلام مع مصر وقد تعالت الأصوات مؤخرًا باستعادتها مع إلغاء الاتفاقية)، ومن ثم يواصل يائير فيقول: إن حادثة قتل الجندي المصري (يقصد الشهيد عبد الله رمضان) ليست خطأ.
ليست مبالغة إذن من الرئيس التركي أردوغان حين يحذر من خطر الصهيونية، ويؤكد أن جرائمها لن تتوقف عند غزة، ومصر أولى من غيرها باستيعاب هذه الحقيقة التي كشفت وجهها القبيح دون أن نعول كثيرًا على الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الداعمة للكيان على طول الخط فضلًا عن المؤسسات الدولية التي تبدو عاجزة حتى عن حماية موظفيها.
ضبط نفس رسمي وغليان شعبي
وفق كل هذه المعطيات ومع المراقبة المتأنية لتطورات الأحداث، فإن صانع القرار المصري (وما تحت يده أعظم وأخطر بالطبع)، لا أظن أنه يغفل أهمية عنصر التوقيت للتحرك من أجل ردع الأطماع الصهيونية، لكن الملاحظ أن الدبلوماسية المصرية تدير معركتها بهدوء شديد وعقلانية منضبطة، وهي في الأحوال كلها لا تنسجم مع غليان الشارع، ولا تمثل المواطن الذي يرى أن الكيل طفح بعد مواصلة جيش الاحتلال لجرائمه على مدار أشهر عدة دون أن تفلح محاولات المؤسسات الدولية وقراراتها، والرحلات المكوكية للمبعوثين الدوليين في كبح جماحه وإجباره على وقف جرائمه.
بوسع مصر في اللحظة الراهنة استرداد مكانتها ودورها الإقليمي الذي لا بديل عنه، وثبت عمليًا أنه ليس باستطاعة أحد ملء فراغه بحكم الجغرافيا والتاريخ، لتؤكد للجميع أنها لا تزال الرقم الصعب في المعادلة، وأنه بمقدورها القيام بما تعجز عنه حتى واشنطن، ذلك أن عجوز البيت الأبيض في فترة “الشك الانتخابي” يخضع للابتزاز الصهيوني بصورة كبيرة، فنراه يتحرك مستجديًا نتنياهو دون القدرة على تجاوز هذه الحدود، والأخير كما نعلم -ككل الصهاينة- يجيدون فن الابتزاز، وبارعون في استغلال الأجواء والصيد في الماء العكر.
لقد عاشت الأمة زمنًا في ظل أنظمة تتاجر بالقضية الفلسطينية، وترفع شعار “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، وكان الهروب الدائم من منح الشعوب حقوقها المشروعة في الحرية والتعبير عن إرادتها الحرة يندرج تحت هذه الذريعة، قبل أن تنكشف الخديعة الكبرى، ونصحو على فاجعة النوم في أحضان العدو والتنسيق معه، والمدهش أنهم أوهمونا بأن السلام الدافئ سبيلنا لننعم برفاهية العيش، لكننا اليوم نتلقى صفعات العدو ونكتوي -في اللحظة ذاتها- بنار الأسعار والغلاء الذي بلغ ذروته برفع غطاء الدعم عن سلع استراتيجية لا غنى للناس عنها.
آن الأوان أن يعلم نتنياهو وعصابته أن للصبر المصري حدودًا، وقد تجاوزها وحان وقت الرد والحساب.