الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين.. هل يكفي؟

لا شيء يذهب هدرا بلا طائل. والمتابع للسياسات الأوروبية يلاحظ كيف تترجم التحركات الشعبية تضامنا مع غزة نفسها في موجة اعتراف رسمي غير مسبوقة “بالدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة”.
بنهاية مايو/أيار الماضي، أي قبل أيام، أصبحت 11 دولة من دول الاتحاد الأوروبي السبع والعشرين تعترف بالدولة الفلسطينية. وشهد الأسبوع الأخير من الشهر إعلان اعتراف إسبانيا وأيرلندا والنرويج وسلوفاكيا.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsدعوة صادقة لقادة الدول الإسلامية
هل انتهى المشروع النووي الإيراني إلى غير رجعة؟
الضربة النووية بين استعراض ترامب والتهوين الإيراني
وكانت المجر وبولندا وبلغاريا ورومانيا وجمهورية التشيك وقبرص قد اعترفت بدولة فلسطين قبل انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وإثر إعلان قيامها من المجلس الوطني الفلسطيني بالجزائر في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1988. وهو الحدث الذي حضرته مع زملاء صحفيين بقصر الصنوبر، وكان قادة في الحركة الوطنية الفلسطينية/ الطور النضالي لمنظمة التحرير ما زالوا على قيد الحياة أمثال ياسر عرفات وجورج حبش وصلاح خلف.
ثم جاءت السويد فكانت أول دولة عضو بالاتحاد الأوروبي تتخذ هذه الخطوة في 2014. وفي المستقبل القريب خطوات مماثلة منتظرة من سلوفينيا ومالطا، وربما غيرهما.
موطن وعد بلفور
وعقدة الهولوكوست
لا يخلو من دلالة أن يحدث هذا التحول الدبلوماسي في القارة العجوز مهد الاستعمار والحركة الصهيونية، وحيث ولدت عقدة الهولوكوست النازي التي جرى توظيفها لتهجير اليهود إلى فلسطين وإقامة دولة الاستعمار العنصري “إسرائيل” على حساب فلسطين وشعبها عندنا. وتوثق الدراسات الديموغرافية الإسرائيلية أن اليهود كانوا يتركزون في أوروبا عند “وعد بلفور” المشؤوم 1917 بنسبة 88% من يهود العالم. واليوم أصبحوا نحو 15% فقط.
ولقد تنكرت السياسات الاستعمارية الأوروبية حتى لقرار تقسيم فلسطين 1947، ومارست الاعتراف بإسرائيل وحدها وحجبته عن فلسطين. زال الاستعمار المباشر الفجّ عن عالمنا العربي، لكن هذه السياسات الجائرة تواصلت متنكرة لحقوق الشعب الفلسطيني، بما في ذلك “الدولة”.
انعكاس لا يريح
لصورة عرفات
نتذكر عندما جاءتنا إلى المنطقة العربية طبعة صحيفة “الهيرالد ترابيون” الدولية بالإنجليزية ومقرها الرئيسي بباريس، وهي تحمل صورة كبيرة للزعيم الفلسطيني عرفات من فوق منبر الأمم المتحدة بجنيف في 13 ديسمبر/كانو الأول 1988، وهو يعلن مبادرة قيام دولة فلسطين على حدود 4 يونيو/حزيران 1967، تمتد إلى أسفل النصف العلوي من الصفحة الأولى مع هذا المانشيت. وكان لافتا أن نحو 70 في المائة من الصورة شغلها انعكاس مشوه لا يوحي بالثقة والارتياح لوجه ياسر عرفات على زجاج منصة الخطابة.
واليوم تأتي هذه المستجدات الدبلوماسية من أوروبا وفق السياقات التاريخية السابقة، مخالفة استمرار رفض الإدارة الأمريكية ومعها حكومات القوى المحورية بالقارة بريطانيا وألمانيا وفرنسا، ودون انتظار لأوهام المفاوضات والاتفاقات وموافقة تل أبيب. تلك التي نمت كغابة من ضلالات حول مجرى ما أطلق عليه زيفًا “مسيرة السلام”، وبخاصة منذ اتفاقات أوسلو بين إسرائيل وقيادة منظمة التحرير.
ولهذا صدرت في إسرائيل تعبيرات من الحكومة والمعارضة تفيد الشعور بالفشل والهزيمة على الصعيد الدبلوماسي. أما الصحافة الإسرائيلية فقد حفلت بمقالات وآراء ساخطة ناقمة.
ومثال ذلك مقال الكاتبة ليات كولينس في الجيروزاليم بوست، الجمعة الماضية 31 مايو/أيار، التي اعتبرت توالي هذه الاعترافات من دول بالاتحاد الأوروبي بمثابة “مكافأة لحماس” تقويها، وتقلق إسرائيل، ومعها سلطة محمود عباس في رام الله، وإن كان الرئيس الفلسطيني قد رحب باعتراف الدول الأربع الأوروبية الجديدة بوصفه “توكيدا لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره”.
مكاسب دبلوماسية
بعد 7 أكتوبر
السياق العام اليوم يفيد بأن فلسطين حققت مكاسب دبلوماسية على الصعيد العالمي منذ عملية “طوفان الأقصى” 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وتداعياتها، فحصلت على قرار جديد من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 مايو/أيار الماضي، بأغلبية 143 من إجمالي 193 دولة، بالانتقال من عضوية العضو المراقب اعتبارا من عام 2012 نحو العضوية الكاملة، وعلى نحو يمنح ممثليها الحق في التقدم بمقترحات والمشاركة في لجان المنظمة الدولية، ولكن دون التصويت، كما يدعو مجلس الأمن إلى الاعتراف بأن تكون فلسطين “دولة كاملة العضوية”.
صحيح أن هذا الاعتراف يظل رمزيا ما دام لم يتمكن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره مع زوال الاحتلال والصهيونية، ويمارس سيادته على أرضه وإقليمه الوطني، ويكون له من القوة العسكرية ما يحمي شعبه من عدوان ومجازر وإبادة وتطهير عرقي مستمر منذ 76 عاما.
والحقيقة أن هذه المواقف الأوروبية الجديدة، على تقدمها عما سبق، ما زالت دون مستوى المطالب الشعبية هناك وفي الفضاءات العامة والجامعات وبين الشباب. هذه الداعية إلى مروحة أبعد وأكثر عدلا من الخيارات تبدأ بمقاطعة إسرائيل، ومنع السلاح عنها إلى قطع العلاقات معها وسحب الاعتراف بها، وصولا إلى العنوان الأهم: “فلسطين من النهر إلى البحر”.. أي لا اعتراف إلا بدولة واحدة هي فلسطين وإنهاء الاحتلال والصهيونية.
ومع هذا تستحق المواقف الأوروبية الجديدة الاهتمام والتقدير لأنها رجحت الاستجابة للرأي العام الداخلي في مجتمعاتها، ولو دون الاستجابة التامة، على ضغوط مؤسسات الحكم والمال الأمريكية وحلفائها.
من أجل
خطوات أخرى إلى الأمام
بالطبع فإن النظام الرسمي العربي ليس في أفضل أحواله، ومعه الدبلوماسية الفلسطينية، كي يستثمر هذا المتغير الجديد. ليس الأمر كما كنا عليه مع حرب أكتوبر 1973 وفي أعقابها، حيث تحقق نجاح على هذه الجبهة الدولية بسحب معظم الدول الإفريقية والعديد من الآسيوية اعترافها بإسرائيل وقطعت العلاقات معها.
واليوم يقف النظام الرسمي العربي، المعتل في قلبه ومعظم قواه المحورية بالاعتراف بإسرائيل والقبول بالصهيونية ومعاداة شعوبه وقمعها، دون إرادة استثمار هذا التطور الأوروبي، والعمل على تقريب الفجوة بين الرأي العام وبين المواقف الرسمية هناك، من أجل المزيد من الخطوات إلى الأمام.
بل هو، وعلى خلاف ما كان مع عدوان 67 وحرب 73، يقف بلا إرادة من أجل استعادة المقاطعة الإفريقية والآسيوية وسحب اعتراف دولها بإسرائيل. وليس من الخطأ القول بأن مبادرات دول في أمريكا اللاتينية مع جنوب إفريقيا بقطع العلاقات مع تل أبيب هو جراء إرادة داخلية ووعي إنساني حضاري عندها هناك، ليس إلا.
ومصداق بؤس حال النظام العربي الرسمي كونه لم يستطع حتى رد الاعتبار لمشروعية المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، وإعادتها إلى مكانتها السابقة عنده، ولو على مستوى الخطاب والبيانات، ولن نقول باتصالاته ومبادراته الدبلوماسية وأوراق ضغطه الاقتصادي.
استعادة فلسطين عملية
ثقافية اجتماعية أيضا
حسنًا ما تشهده صفحات التواصل الاجتماعي مؤخرا من استعادة وانتشار صور فوتوغرافية للحياة بفلسطين ومظاهر تجسيد الوطن والدولة قبل نكبة 1948. وهكذا لم تعد هذه العملية الثقافية/ السياسية الوطنية المهمة تقتصر على بضعة آلاف نسخ من الكتب المطبوعة بالعربية واللغات الأجنبية، ومثلما عليه الجهد المقدر للمؤرخ وليد خالدي الصادر من مؤسسة الدراسات الفلسطينية 1991 بعنوان: قبل الشتات: تاريخ فوتوغرافي للفلسطينيين 1967/ 1948″.
ولأن الاعتراف بدولة فلسطين لا يكفى، فإن المطروح على النقابات والأحزاب وغيرها من المؤسسات والوسائل غير الرسمية بالعالم العربي هو نقل هذه المعركة الجارية في أوروبا وغيرها من أنحاء العالم، وبأبعادها المتعددة من السياسة والدبلوماسية، إلى مربعي: سحب الاعتراف من إسرائيل.. وإعادة الاعتبار لمشروعية المقاومة المسلحة. بل والمناداة بتسليح حماس وغيرها من مكونات المقاومة الفلسطينية دفاعًا عن شعبها.