لماذا يدافع يهود أمريكيون عن غزة؟
كشفت الإبادة الجارية في غزة الوجه القبيح للاحتلال، وأعاد العدوان الإسرائيلي تقديم القضية الفلسطينية إلى العالم على حقيقتها ونسف الرواية الصهيونية؛ مما أدى إلى تحولات كبرى في الرأي العام الدولي، خاصة في الدول الراعية لـ”إسرائيل”، وكان من أبرز الظواهر مشاركة يهود من كل الأعمار في الاحتجاجات، وهم يرفعون لافتات تدعو إلى حرية فلسطين ويطالبون بوقف الحرب.
شارك مواطنون يهود في التظاهرات المؤيدة لغزة في المدن الأمريكية، وانخرط طلاب وأساتذة يهود في الاعتصامات التي انتشرت في الجامعات، وكان من المعتاد رؤية حاخامات بزيهم الديني في كل الفعاليات جنبا إلى جنب مع المسلمين والمسيحيين والأقليات الأخرى يحملون أعلام فلسطين ويلوحون بالكوفية الفلسطينية، ويهتفون ضد جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنتنياهو وحزب الله.. والرهان على ترامب
النصيب العربي في التجارة الأمريكية وتأثيره السياسي
أنقرة وخطأ الرهان على أوجلان لحل المشكلة الكردية
لأول مرة نشاهد هذه المواقف الصريحة والقوية من داخل الطائفة اليهودية، على عكس ما هو معتاد في السابق من تأييد مطلق للاحتلال الإسرائيلي، وكانت هذه المشاركة دليلًا على حدوث انشقاق كبير داخل المجتمعات اليهودية بسبب غزة، كان له تأثير مهم في امتصاص الرد العنيف من النخبة السياسية الأمريكية المؤيدة للاحتلال وإفشال مساعي تجريم المؤيدين لفلسطين ومحاصرة مناهضي الحرب.
حركات يهودية تدافع عن فلسطين
ينشط عدد من الحركات اليهودية في الولايات المتحدة في الدفاع عن فلسطين وانتقاد “إسرائيل”، ومن أشهر هذه الحركات “الصوت اليهودي من أجل السلام” وحركة “إن لم يكن الآن” و”يهود من أجل العدالة العرقية والاقتصادية” و”حاخامات من أجل وقف إطلاق النار”، فقد نظمت هذه الحركات احتجاجات قوية ومؤثرة، أشهرها اقتحام متظاهرين يهود للكونغرس وهم يرتدون قمصانا سوداء كتب عليها “ليس باسمنا” و”اليهود يقولون أوقفوا إطلاق النار الآن”.
ونظمت الحركات اليهودية احتجاجا أمام تمثال الحرية في نيويورك وجلسوا عند قاعدته يهتفون “لن يحدث هذا مرة أخرى لأحد، لن يحدث ذلك أبدا مرة أخرى الآن”، يقصدون المحرقة والإبادة الجماعية، وتكررت الاحتجاجات في محطات المترو وفي الشوارع المؤدية إلى المطارات، ووسعوا من حركتهم فتوجهوا إلى منازل بعض السياسيين وأعضاء الكونغرس يطالبونهم بسحب تأييدهم لـ”إسرائيل”.
كانت الاعتصامات الجامعية هي أبلغ رد على حملة الافتراءات التي رددها اللوبي ضد الاحتجاجات المؤيدة لغزة، حيث أثبت الطلاب اليهود مشاركتهم علانية، وكانوا يردون بشكل عملي على الاتهامات التي يرددها الإعلام الرسمي ضد المناصرين للقضية الفلسطينية، وكشف التعايش والتسامح في مخيمات الاعتصام كذب حملة التخويف ومزاعم إرهاب الطلاب اليهود في الجامعات.
يهود يرفضون تعريف معاداة السامية
شارك في الاعتصامات مع الطلاب مشاهير من اليهود مثل جيل ستاين المرشحة الرئاسية السابقة عن حزب الخضر، وأساتذة جامعات من اليهود، وهؤلاء الأساتذة تصدّوا للقانون الفيدرالي الذي وافق عليه مجلس النواب وتبنّى فيه التعريف المثير للجدل للتحالف الدولي لإحياء ذكرى المحرقة (IHRA)؛ لأنه ذكر أن مظاهر معاداة السامية “قد تشمل استهداف دولة إسرائيل”، وقد أقرت هذا التعريف ولايات أمريكية ودول غربية.
جمع أعضاء هيئات التدريس اليهود في الجامعات الأمريكية ما يزيد على ألف توقيع على بيان يرفض الأيديولوجية الصهيونية، وقالوا “إن خنق النقد لإسرائيل بهذا التعريف يعزز المفهوم الخطير القائل إن الهوية اليهودية مرتبطة عضويا بكل قرار تتخذه حكومة إسرائيل، وهذا التعريف سيزيد التهديدات الحقيقية التي يتعرض لها اليهود الأمريكان حاليا”. وأرسلوا البيان والتوقيعات إلى أعضاء مجلس الشيوخ لمنع تمرير القانون.
أسباب التحولات داخل اليهودية
مشاهد القصف بالقنابل وقتل النساء والأطفال والتدمير الواسع لاستئصال الفلسطينيين أكدت بما لا يدع مجالا للشك أن العالم أمام إبادة وتطهير عرقي يشبه المحرقة النازية التي طالما كتب اليهود عنها وأنتجوا الأفلام والمسلسلات التي تكشف ما جرى فيها من معاناة، وفوجئ اليهود خاصة الأجيال الجديدة بأن الجريمة التي رفضوها تتكرر أمام الشاشات اليوم ولكن مع شعب آخر، ويرتكبها الإسرائيليون الذين يتحدثون باسمهم، وظلوا لعقود يدعون أنهم لن يسمحوا بتكرار الإبادة مرة أخرى!
وقد عبر عن هذه المشاعر المخرج البريطاني اليهودي جوناثان غليزر في لحظة فوزه بجائزة الأوسكار عن فيلمه الذي يتناول المحرقة؛ إذ قال عند تكريمه: “نقف أمامكم الآن كرجال يهود يرفضون اختطاف يهوديتهم والمحرقة من قبل الاحتلال؛ مما أدى إلى صراع يقتل فيه الكثير من الأبرياء”. ووسط تصفيق حار من القاعة أضاف: “جميع خياراتنا تم اتخاذها لتواجهنا في الحاضر.. ولا نقول: انظروا إلى ماذا فعلوا في الماضي، بل انظروا إلى ما نفعله الآن”.
من خلال التصريحات والمواقف فإن العدو المشترك لليهود الأمريكيين الرافضين لجرائم الاحتلال هو الصهيونية، فاليهود الذين قرروا مناصرة فلسطين وتحدّي مجتمعاتهم يرون أن إسرائيل مشروع قومي من بقايا المرحلة الاستعمارية يحاول إعطاء مسحة يهودية على كيان استيطاني احتلالي متوحش يقوم على التطهير العرقي للشعب الفلسطيني.
من أهم ما قيل عن التحولات داخل المجتمعات اليهودية بسبب غزة ما تطرحه الكاتبة اليهودية نعومي كلاين في مقالات وخطب وسط المحتجين ضد الحرب بقولها: “نحن بحاجة إلى هجرة جماعية من الصهيونية”، وتدعو اليهود إلى الكفر بالصهيونية، التي وصفتها بأنها العجل الذي عبده بنو إسرائيل عندما ذهب موسى لتلقي الوصايا، وأن الصهيونية تشكل خطرا على اليهود أنفسهم.
وقالت نعومي كلاين صاحبة كتاب عقيدة الصدمة في مقال لها في الغارديان البريطانية إن “الصهيونية صنم زائف، خان كل القيم اليهودية، وقاد الكثير من أبناء شعبنا إلى اتباع طريق غير أخلاقي تمامًا، ولا يمكن للمؤسسة العسكرية الجامحة لهذا الكيان أن تحمي يهوديتنا، لأنّ كل ما يفعله الجيش هو زرع الحزن وحصد الكراهية، بما في ذلك ضدنا كيهود”.
مخاوف اليهود من تحمل تبعات الإبادة
يتفق اليهود اليساريون والعلمانيون والمتدينون الأرثوذكس رغم اختلاف دوافعهم على أن إسرائيل ليست هي دولة اليهود، وأن الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين كيان يخدم الصهيونية ويضر بالديانة اليهودية، وجاءت الحرب العدوانية الجارية لتقوّي حججهم وتضعهم في الصدارة، وتجعلهم في مواجهة الإبادة التي تجري باسمهم.
هناك أيضا الخوف من تحمل تبعات الإبادة التي ترتكب باسم اليهود بمبرر “الدفاع عن النفس”، إذ قد يدفع ثمنها أبرياء ليس لهم صلة بها، في مجتمع يعاني من الانقسام، متنوع ومتعدد الأعراق والديانات، وقد عبرت عن هذه المشاعر الموظفة اليهودية المستقيلة من إدارة بايدن ليلى غرينبيرغ بقولها: “بايدن يجعل الشعب اليهودي مسؤولًا عن هذه المذابح في غزة، ولهذا كان من المهم لي كيهودية أن أعلن استقالتي”.
اليهود الأمريكيون، رغم سيطرة اللوبي الصهيوني على الكونغرس، يعانون من مشاعر الكراهية تجاههم من قطاعات من البيض الأمريكيين أنصار ترمب الذي يتودد لهم، وكثيرا ما تعرضت المعابد اليهودية لهجمات من النازيين البيض الذين يرون أن أمريكا ملك لهم ولا مكان لليهود بينهم، وهذه المخاوف تجعلهم يميلون أكثر إلى الحزب الديمقراطي والتقارب مع الأقليات الأخرى خاصة المسلمين والسود.
هذا الانشقاق والتصدع الكبير الذي يضرب ما كان يبدو من وحدة يهودية في الولايات المتحدة امتد إلى أوروبا وأستراليا، حيث تم استنساخ التجربة بذات الشعارات وذات المطالب، ويزداد هذا الانشقاق اتساعا مع استمرار العدوان؛ مما يكشف الغطاء عن عصابة مجرمي الحرب، وينزع المشروعية والهالة الكاذبة عن المشروع الاستيطاني؛ لتتحول إسرائيل إلى كيان منبوذ، ومكروه من الدوائر الداعمة له، وهذا من المكاسب الكبرى لطوفان الأقصى والصمود الفلسطيني.