غزة على مائدة اللئام في الانتخابات الأمريكية

تحضر غزة في انتخابات الرئاسة الأمريكية، المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، على مائدة المزايدات بين المرشحَين؛ الرئيس الحالي جو بايدن، وخصمه العنيد دونالد ترمب، إذ يسعى كلاهما إلى أن يؤكد للوبي الصهيوني، أنه الأكثر إخلاصًا لإسرائيل، والأكثر انحيازًا إلى حكومتها اليمينية.
بعد إدانة المرشح الجمهوري ترمب بتقديم 130 ألف دولار رشوةً، لشراء صمت ممثلة الأفلام الإباحية ستورمي دانيالز، كي لا تنبس ببنت شفة بشأن ما كان بينهما من علاقة جنسية سرية، إبّان انتخابات 2016، شرع يرفع نبرة محاباته إسرائيل، طارحًا نفسه بوصفه “رجل الضرورة” الذي سيذود عن حياضها.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنهاية الإخوان!!
الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ المنشاوي في سوهاج
بسبب معدلات الإنجاب.. تركيا تدق ناقوس الخطر
“سأسحق المظاهرات المطالبة بوقف الحرب”.. قالها ترمب متعهدًا بتنفيذ ذلك، فور جلوسه إلى المكتب البيضاوي، من دون توضيح الكيفية التي سيسحق بها الاحتجاجات، غير أنه ليس خافيًا أن استخدامه تعبير السحق، يُومئ إلى إيحاءات خشنة فظة، تبدو منبتّة الصلة عن أدبيات الخطاب السياسي الأمريكي، سواء للجمهوريين أو الديمقراطيين، على الأقل حين يتوجه إلى الداخل.
سيسحق.. ولِمَ لا؟ إن الرجل هبط بمنطاد المقاولات إلى عالم السياسة، لا يفهم إلا لغة الأرقام، يعرف من أين تؤكل الكتف، فلتذهب مبادئ حرية التعبير الأمريكية إلى الجحيم، ما دام سيبرم صفقة انتخابية مع اللوبي الصهيوني.
في استطلاع للرأي، بعد نطق هيئة المحلفين في المحكمة بقرار إدانة ترمب، أعرب 54% من الناخبين عن اعتقادهم أن “الحكم صائب”، في حين رأى 49% من المستقلين، و15% من الجمهوريين، أن عليه الانسحاب من الانتخابات، وذكر 44% أن إيداعه السجن هو الجزاء العادل.
الإدانة تخرق سفينة ترمب الانتخابية
هكذا تُعَد الإدانة خرقًا لسفينة ترمب الانتخابية، إنه يكاد يغرق في أمواج الخسران، وهو بتاريخه الطويل في عالم الأعمال، لا يستسيغ ضياع صفقة، فليناور إذَن بمزيد من محاباة الكيان الصهيوني، عسى أن ينتشله ذلك إلى شواطئ الانتصار على خصمه، الذي لا يفتأ يصفه بأنه “عجوز مخرف”.
في حفل للمانحين اليهود، أقيم الأسبوع الأول من الشهر الجاري، أخذ ترمب يُذِكّر بأياديه البيضاء على إسرائيل، ومن ذلك أنه أول رئيس أمريكي يتخذ “القرار الشجاع” الذي لم يجرؤ عليه أسلافه جميعًا، وهو نقل سفارة واشنطن من تل أبيب إلى القدس المحتلة.
ثم بلغة المقاول مضى قائلًا “ولقد اعترفت في فترتي الرئاسية، بأن مرتفعات الجولان جزء من إسرائيل، ولعلكم تعرفون أن قيمتها تساوي تريليوني دولار، من الناحية العقارية”.
صفوة القول إن ترمب الذي بعثرت الإدانة القضائية أوراقه الانتخابية، لم يجد سبيلًا إلى تستيف المبعثَر إلا على أشلاء الغزيِّين، فمن أجل صفقة رابحة، لا بأس من رشوة ما، من دماء العرب، وهي رشوة ليست مكلفة له، فلن تكبده سنتًا واحدًا، عكس صفقته لشراء صمت الغانية.
وعلى ضفة الديمقراطيين، لم يكتفِ بايدن بجسر المساعدات العسكرية والاستخباراتية والمالية لإسرائيل، منذ طوفان الأقصى، ولا وقوف إدارته بقضها وقضيضها بجوار تل أبيب، في مجلس الأمن والمحكمة الجنائية الدولية، وقبل ذلك تشدقه بالأساطير الإسرائيلية بشأن اغتصاب النساء، وقطع رؤوس الأطفال، رغم ثبوت تهافتها، ولا تعليق تمويل إدارته وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) على خلفية اتهامات سائبة، في حين كان الفلسطينيون يأكلون أعلاف البهائم.
بعد القصف الإسرائيلي الوحشي لخيام النازحين في رفح، لم تحرّك الإدارة الديمقراطية ساكنًا، ولم تنبس ببنت شفة اللهم إلا الإعراب عن الأسى، ومن ثَم وصف الجرائم الإسرائيلية بأنها “ما زالت محدودة”، وبعد قصف مدرسة تابعة للأونروا، قالت إنها تتوسم في تل أبيب أن تُجري تحقيقًا شفافًا.
غني عن البيان أن عبارة “ما زالت محدودة” تفتح الإشارات الخضراء أمام الجيش الإسرائيلي، للمضي قدمًا في جرائمه، في حين تُعَد دعوة القاتل إلى تحقيق شفاف، في جريمة ارتكبها هو، من قبيل العبث الهزلي.
أمريكا الصغيرة جدًّا في العالم العربي
كان السياسي الفلسطيني المخضرم فاروق القدومي، يقول في شرح محددات السياسة الأمريكية بالعالم العربي “إن الولايات المتحدة الكبيرة جدًّا، والمهيمنة على القرار الدولي، تبدو صغيرة في المنطقة، إذ يتقهقر دورها إلى حد الاكتفاء بتحقيق مصالح إسرائيل فحسب”.
لدى قصف النازحين في رفح، في الجريمة التي اصطلح على تسميتها “محرقة الخيام”، على سبيل استدعاء هولوكوست النازية، بدت الولايات المتحدة أصغر من صغيرة، ولدى الغارات على المدرسة، بدا بايدن مجرد سفير لتل أبيب في البيت الأبيض، وليس رئيس القطب العالمي الأحادي.
حتى مبادرته لوقف الحرب، لم تخرج عن إطار محاباة إسرائيل، إذ توحي القراءة الأولية لفحواها، بالضبابية والالتباس والانحياز، فطرح الدولة الفلسطينية، التي كانت حتمية في خطابات بايدن، على مدى الشهرين الماضيين، قد أُهمِل كليًّا، فلا نص مباشر، ولا تلميح مستتر، وهذا منطقي بالنظر إلى أن المبادرة في الأصل، قد طُبخت في تل أبيب، ولا دور للرئيس الأمريكي إلا الإعلان عنها.
ولا تحدد المبادرة كوابح، أو تضع موانع دبلوماسية، تحول دون استئناف العدوان، وليس أدل على ذلك من تصريح مجرم الحرب نتنياهو، بأن المبادرة لا تمنع إسرائيل من شن الحرب متى تشاء.
وهكذا تبدو غزة على مائدة الانتخابات الأمريكية، أشبه بفريسة مثخنة بجراحها، بين أنياب ضبعين، يتنافس كلاهما على نهش القطعة الأكبر من لحمها، لتقديمها لقمة طريّة لنتنياهو، الذي يزايد بدوره لإرضاء الجناح الأكثر تطرفًا في حكومته.
هي مبادرة انتخابية إذَن، ولها ثلاثة مآرب أمريكية إسرائيلية، وليس من بينها إيقاف المأساة الفلسطينية، فأولًا يريد بايدن أن يظهر أمام الرأي العام الأمريكي، بصورة الرجل الذي أطفأ النيران، وخاصة بعد تنامي تيار معارضة سياساته المنحازة إلى الجاني ضد الضحية، وثانيًا إقناع إسرائيل بأنه أكثر حرصًا على مصالحها من منافسه الجمهوري، وثالثًا إرضاء اللوبي الصهيوني، الذي يبتز مثل المُرابي في مسرحية “تاجر البندقية” لوليام شكسبير، المرشحَين الرئاسيَّين، بشتى السبل الدنيئة.
غزة تنزف بين الانتهازية الإسرائيلية ومزايدات الانتخابات الأمريكية بين ترمب وبايدن؛ السيئ والأسوأ، في حين تتلاشى الضغوط العربية الرسمية كليًّا، رغم أن تنامي المظاهرات في الداخل الأمريكي ضد إسرائيل، تُعَد فرصة غير مسبوقة للضغط، لو أراد العرب.. لكن كما هو معلوم “لو حرف امتناع لامتناع”.