غزة تهزم الفاشية في فرنسا.. كيف فاز اليسار؟!

أنصار اليسار الفرنسي يحتفلون بفوزه (الأناضول)

 

ارتفعت أعلام فلسطين، بجوار الأعلام الفرنسية في قلب باريس، بعد أن حقق اليسار “ريمونتادا” تاريخية في الانتخابات التشريعية، وتعالت هتافات المحتفلين بالنصر “كل الشعب ضد الفاشيين”، بينما أكد زعيم اليسار الراديكالي لوك ملينشون وسط الآلاف من أنصاره عزمه الاعتراف في أسرع وقت بالدولة الفلسطينية.

غير أن الطريق ليس مفروشا بالورود أمام الجبهة الشعبية اليسارية، التي لم تحصل على الأغلبية المطلقة، ولكنها قد تستطيع بزخم الانتصار على العنصرية، واستمرار التعبئة في الشارع، أن تشكل حكومة تتخذ خطوات عاجلة لصالح “الشغيلة” والمهاجرين وللنضال الفلسطيني، وإلا ستنضم باريس بدورها إلى نادي “الفاشيات الأوروبي” بعد سنوات قليلة.

دموع الفاشيين في فرنسا وإسرائيل

حدثت المعجزة، وحلَّ اليسار أولا، والمعسكر الرئاسي ثانيا، بينما تراجع اليمين الفاشي ثالثا، في الجولة الثانية من الانتخابات البرلمانية.

وذكرت صحيفة فايننشيال تايمز البريطانية أن “صيحات الرعب تعالت، وذُرفت الدموع في حزب التجمع الوطني مع ظهور النتائج. وحلَّ صمتٌ وذهول محلَّ التلويح بالأعلام والهتافات التي تلت الجولة الأولى من الانتخابات الأسبوع الماضي”. وأضافت الصحيفة “تحولت منصة الشمبانيا إلى مركز للعزاء لمؤيدي حزب التجمع في باريس”.

الدموع لم تقتصر على فاشيي فرنسا، بل امتدت الى الفاشيين الصهاينة، فقال عضو الكنيست الإسرائيلي ورئيس حزب “إسرائيل بيتنا” اليميني المتطرف أفيغدور ليبرمان على منصة إكس “صعود اليسار معناه صعود كراهية إسرائيل ومعاداة السامية في العالم، وأدعو اليهود في فرنسا للهجرة إلى إسرائيل”.

ففرنسا لم تنم منذ عملية طوفان الأقصى، حيث شهدت مدنها ومصانعها وميادينها مظاهرات حاشدة لم تقتصر على الجاليات العربية دعما لغزة، ولم يُخفِ اليمين الفرنسي المتطرف -بدوره- تأييده لحرب الإبادة الصهيونية على غزة.

وحسب وسائل إعلام، لم يسبق أن كانت قضية “معاداة السامية” محورية إلى هذا الحد في الحملة الانتخابية الفرنسية، وهو ما دعا كبريات الصحف الأجنبية إلى طرح سؤال مفاده: هل يوجد مستقبل لليهود في فرنسا في ضوء صعود “المتطرفين” المتوقع إلى سدة الحكم؟!

وقال جان كامو، سياسي يميني متخصص في الحركات المتطرفة “هذه ليست المرة الأولى التي يوجد فيها مثل هذا الغضب والعداء الشديد تجاه إسرائيل”. وأضاف “كان هذا هو الحال في عام 1982 خلال حرب لبنان الأولى، لكن اليوم توجد وسائل تواصل اجتماعي، إلى جانب يسار راديكالي يتماهى مع شعارات من قبيل “من النهر إلى البحر”.

وفي هذا المناخ الغاضب، خسر مئير حبيب -عضو الحزب الليبرالي الوسطي والحليف المعروف لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو- مقعده، رغم وجود ثالث أكبر جالية يهودية بالعالم في فرنسا بعد أمريكا وفلسطين المحتلة.

ورغم أنه لا يمكن الحديث عن تصويت قومي لليهود الفرنسيين، فبعضهم يؤيد اليسار والبعض الآخر ينتخب اليمين، فإن لهذه الصورة العامة جوانب أخرى، حسب ما أورد الكاتب كارم يحيى في كتابه “رهان المليون السابع، اليهود والهجرة الصهيونية حتى 2020”.

ويشير يحيى “من حين لآخر تؤكد العنصرية الصهيونية نفوذها بين اليهود وعلى المؤسسات في فرنسا، كما يُستخلص من محاكمة الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي، ومن دور منظمات صهيونية متطرفة كمنظمة ‘بيتار’ التي اعتادت ممارسة العنف والبلطجة ضد معارضي إسرائيل والصهيونية”.

كيف فاز اليسار؟

بداية، وبعد قنبلة ماكرون بحل البرلمان بعد تقدم اليمين الفاشي في الانتخابات الأوروبية، سارعت أربعة أحزاب يسارية (فرنسا الأبية والشيوعي والاشتراكي والخضر) إلى تشكيل “الجبهة الشعبية الجديدة”، بالتعاون مع قوى نقابية وحركات داعمة لفلسطين، وصاغت برنامج حد أدنى.

وفي استعراض للقوة، نجحت هذه القوى في تنظيم مظاهرات شارك فيها 800 ألف شخص. المتظاهرون طالبوا بإلغاء قوانين ماكرون، وعلى رأسها قانونا التقاعد، والهجرة العنصري، وأعلنوا تأييدهم لغزة.

هذه التعبئة السياسية والجماهيرية دفعت الجبهة الشعبية إلى احتلال المرتبة الثانية في الجولة الأولى للانتخابات، ولكن حزب التجمع الفاشي تصدَّر المشهد، وهو ما استدعى اتخاذ خطوات إضافية.

وعلى الفور، نحّت الأغلبية الرئاسية السابقة والأحزاب اليسارية خلافاتها الجذرية مؤقتا، وانسحب أكثر من 200 من مرشحي هذين التحالفين السياسيين الذين تأهلا في الدور الأول، من خوض الدور الثاني لصالح أي مرشح آخر منهما ينافس التجمع الوطني.

كما نجح القادة السياسيون والنقابيون في تعبئة الجماهير ضد العنصرية، وتسليط الضوء على تجارب المهاجرين والسود والمسلمين المباشرة مع الفاشيين، التي جعلتهم يدركون أن وصولهم إلى السلطة سيحوّل حياتهم إلى جحيم.

وعلاوة على ذلك، كان لإعلان الجبهة الشعبية عزمها الاعتراف الفوري بالدولة الفلسطينية فعل السحر في أوساط الفرنسيين من أصول إسلامية وعربية، الذين صوتوا بكثافة لليسار، في مواجهة ماكرون الذي طالما تبنى مقولة “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها “، بل وقمع المظاهرات المؤيدة لغزة.

وتشير التقديرات إلى أن أعلى نسبة للمسلمين في أوروبا توجد في فرنسا، فحسب دراسة للمعهد الفرنسي للإحصاء في يونيو/حزيران 2023، فإن 10% من الفرنسيين يعلنون أنهم مسلمون، بينما تشير تقديرات أخرى إلى أنهم يشكلون 15%.

كل هذه العوامل مجتمعة أوقفت زحف الفاشيين إلى السلطة في واحدة من أهم الدول الأوروبية، ودفعت كتلة اليسار إلى المرتبة الأولى، بينما حلت الكتلة الرئاسية ثانيا، في حين حل اليمين المتطرف ثالثا.

ألغام في طريق الجبهة الشعبية

نجح “السد الجمهوري” الذي دعا إليه “الإخوة الأعداء” في منع الفاشيين من الوصول إلى الحكم، إلا أن المعضلة التي تواجه اليسار الآن، بعد أن راحت السكرة وجاءت الفكرة، هي: كيف يشكل حكومة دون الوقوع في فخ التحالف مع خصمه اللدود ماكرون من جهة، أو تتفكك جبهته من جهة أخرى؟

وينتقد محللون يساريون موافقة الجبهة الشعبية على سحب مرشحيها في دوائر انتخابية عديدة، مما سمح لأنصار ماكرون بالفوز بمقاعد عديدة، وأضاع عليها فرصة الحصول على أغلبية مطلقة.

وفي المقابل، لا يخفي قادة بارزون في التحالف الرئاسي رفضهم التعامل مع حزب ميلنشون، متهمين إياه بـ”معاداة السامية” و”الحض على تفرقة الفرنسيين”، ودعوا إلى تشكيل حكومة وطنية، منفتحة على اليمين دون “متطرفين” يساريين.

ودخلت بعض الشخصيات الفرنسية المعروفة بولائها للصهاينة على خط الهجوم، معتبرين أن نتائج الانتخابات تشكل خطورة على اليهود الفرنسيين، وفقا لما جاء بموقع “إسرائيل اليوم” العبري.

الموقع أورد تدوينة للفيلسوف الصهيوني الشهير برنار هنري ليفي في حسابه على منصة إكس، قال فيها “لقد وقع اليسار مرة أخرى فريسة لميلنشون سيئ السمعة، ويحيط به الآن بعض الوجوه الجديدة لمعاداة السامية، إنها لحظة تقشعر لها الأبدان بالفعل، وليس أمامنا الآن سوى المثابرة في النضال ضد هؤلاء الأفراد”.

ونُقل عن ليفي قوله لاحقا “بالنسبة للديمقراطيين، هناك الآن خصم أساسي، هو حزب فرنسا الأبية. دعونا نأمل أن يمتنع ماكرون عن التواصل معه”.

بدوره، علّق الصحفي اليهودي الفرنسي يوهان الطيب على هذا الفوز، قائلا “انتصار ميلنشون يبعث برسالة مرعبة عن الإفلات من العقاب إلى جميع الفاشيين الإسلاميين المناهضين لليهود”.

هذا الهجوم المركّب قد يعمق التناقضات الداخلية داخل الجبهة الشعبية، التي تم التغاضي عنها مؤقتا، لكنها من الممكن أن تنفجر في أي لحظة، خصوصا في ظل المفاوضات الدائرة بشأن تسمية رئيس وزراء يساري.

ويمكن رصد اختلافين مهمين بين أطراف الجبهة، الأول مرتبط بجذرية المعارضة لليبرالية المتوحشة، فالحزب الاشتراكي تورط في سن قوانين معادية للجماهير الشعبية، وعلاقته بتل أبيب تاريخيا جيدة جدا، ويصم “حماس” بالإرهاب، وهو ما يتناقض مع مواقف ميلنشون.

وعلاوة على ذلك، فإن اليمين الفاشي، وإن كان يشعر بالإحباط حاليا، لكن نتائج الانتخابات فرضته قوة سياسية وازنة، ولهذا قالت مارين لوبان “إن المدّ آتٍ. لم يرتفع بما يكفي هذه المرة لكنه مستمر في الارتفاع”.

وفي المقابل، رأت مجموعات سياسية نتائج الانتخابات انتصارا للمقاومة الفلسطينية، وهزيمة للحلف الصهيوني، لكنه ليس كافيا لوقف زحف الفاشيين.

والتقطت مجموعة “مسيرة التضامن” المناهضة للعنصرية طرف الخيط، وقالت “نحن في أحيائنا وفي مواقع العمل أقوى بتضامننا، وسنواصل النضال”، داعية الى مظاهرة حاشدة يوم الأحد المقبل في عيد الباستيل.

وتابعت “ما نحتاج إليه هو الوحدة ضد العنصرية والفاشية، الوحدة بين مناهضي العنصرية وأولئك الذين يناضلون من أجل فلسطين وضد الاستعمار الفرنسي في كاليدونيا الجديدة، بين أولئك الذين انتفضوا ضد عنف الشرطة وملايين العمال الذين ناضلوا ضد الهجوم على المعاشات”.

ويبقى أن فوز اليسار “الدراماتيكي” في فرنسا، بعد أيام قليلة من الهزيمة التاريخية للمحافظين في بريطانيا، يُظهر بوضوح مدى التأثير الضخم للصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني على التطورات السياسية في العالم، واتساع نطاق معسكر المقاومة وقدرته على قلب الموازين، في مواجهة معسكر الاستعمار والعنصرية والإفقار.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان