أخيرا.. الصين تواجه عفريت “الثانوية العامة”!

ودّع طلبة الثانوية العامة العرب حالة الفزع التي أحيطت بهم أثناء فترة الامتحانات المؤهلة للقبول بالجامعات. لن يغادر هؤلاء وأهلهم حالة القلق الدائم، حيث تأمل ملايين الأسر الحصول على مجموع يؤهلهم لما يطلَق عليه كليات القمة، والفوز بوظيفة جيدة في سوق عمل شديدة التنافسية.
ظاهرة الرعب من امتحانات المدارس لا نجدها إلا في الدول السلطوية، بينما المجتمعات الليبرالية تكرس أموالها للاستثمار في رأس المال البشري، بجعل التعليم والصحة مسؤولية الدولة الملزمة بتوفير المال والأجواء الكفيلة بتعليم المواطنين بدون ضغط على ميزانية الأسر، وبما يمكّن الطلبة من الإبداع والتفرد.
اقرأ أيضا
list of 4 items“الحذاء الشرعي”.. بعد إطلالة زوجة أحمد الشرع
فساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
تُعَد حالة الفزع لدى الطلبة والأسر العربية أقل بؤسا مما يعيشه نظراؤهم الصينيون، لكن الفارق أن بيجين التي تخطط لبلوغ قمة العالم، أدركت أخيرا أن “عفريت الثانوية العامة” المعروف باسم ” جاو كاو” سيدمر مستقبل شبابها وقدرتها على المنافسة والإبداع في المستقبل القريب، في ظل صراع اقتصادي حاد، وحصار تكنولوجي وعلمي يفرضه الغرب على طلابها وشركاتها.
“شاو مين” كبير المغششين
أيقن الصينيون بعد أن أنهى 13.5 مليون طالب، في يونيو/حزيران الماضي، الامتحان المؤهل للقبول بالجامعات “جاو كاو” GaoKao خطورة المأزق الذي يحيونه.
اعتاد المواطنون على “نكد” الامتحانات الدائم، إذ يتدرب طلبة المدارس الإعدادية “المتوسطة” على خوض مسابقة القبول بالتعليم الثانوي التي تُعرف بـ”زونغ كاو” ZhongKao، بين شهري يونيو ويوليو/تموز سنويا، يتوجه 60% منهم إلى الثانوية العامة، والآخرون يلتحقون بالتعليم الفني “زونغ تشوان” Zhongzhuan.
تشهد أجواء امتحانات “جاو كاو” استنفارا من الأهالي ومسؤولي المدارس والمعلمين الذين يحرصون، خاصة بالأقاليم، على اصطحاب الطلبة في سيارات جماعية إلى مكان انعقاد الامتحانات، وسط أجواء حماسية، تشهد رفع الرايات واللافتات لتحفيز الطلبة على التفوق والثبات أمام صعوبة الامتحانات الصعبة التي تجري على مستوى الدولة.
يحدد الامتحان -يجري لمدة 3 أيام متصلة بين المتنافسين في اللغة الصينية والإنجليزية والرياضيات والعلوم- عدد الناجحين المؤهلين للالتحاق بعدد محدود من الجامعات التي تُعَد الأفضل في تأهيل طلابها لسوق العمل.
تجعل “جاو كاو” نظام التعليم الصيني واحدا من أكثر الأنظمة تنافسية في العالم، يدفع نحو 250 مليون طالب نحو دارسة مكثفة لمدة 12 عاما، تحت ضغط الحفظ والتلقين القسري، من المرحلة الابتدائية حتى الثانوية.
يؤدي ضغط الامتحانات إلى بعض الغش المبتكر على مواقع التواصل الاجتماعي مثل” شاو مين” -الشهير بين مسربي الامتحانات في مصر- وإعطاء التلاميذ منشطات لزيادة درجاتهم في اختبارات التربية البدنية، أو نقلهم إلى مقاطعات بعينها تكون فرصتهم للالتحاق بكليات القمة بها أفضل من المناطق التي يقيمون بها.
الطبقية على الطريقة الشيوعية
التعليم في الصين مجانا في المرحلة الابتدائية والإعدادية، فإذا فشل الطالب في الوصول إلى التعليم الثانوي العام، يستطيع الأغنياء أن يكملوا دراستهم بالمدارس الخاصة أو الدولية التي تؤهلهم للجامعة مباشرة. تتحمل الأسر جزءا من التكاليف بالمرحلة الثانوية، ولا يتمكن أغلبية الفقراء من تحمُّل المصروفات الدراسية، خاصة مدارس النخبة بالمدن الثرية.
يقضي الأطفال الذين لا يتجاوزون 10 سنوات نحو 4 ساعات في أداء الواجبات المنزلية يوميا، تصل إلى 7 سنوات بالمرحلة المتوسطة، و9 ساعات بالثانوية، بين تشجيع مستمر والمراقبة والإكراه من الوالدين، لتأهيل الطلبة على المنافسة في الدراسة ودخول سوق العمل. أثبتت جمعية أبحاث النوم الصينية أن الطلبة لا يحصلون على قدر كاف من النوم، إذ يتراوح متوسط ساعات النوم من 6 ساعات و30 دقيقة إلى 7 ساعات و56 دقيقة يوميا.
أصبحت الأسر مضطرة إلى دفع أسعار أعلى للدروس الخصوصية المباشرة، خشية أن يتخلف أطفالها عن الركب، ومع الانخفاض الأوسع في الوظائف ذات الأجور المرتفعة، أصحبت التنافسية أكثر قسوة، مما يضيف أعباء مالية كبيرة على أولياء الأمور الذين يحرصون على تأمين مستقبل أبنائهم العلمي والمادي.
حظرت الحكومة عام 2021 الدروس الخصوصية بعد المدرسة للطلبة المسجلين بالمدارس الابتدائية والمتوسطة من سن 6-15 عاما، في المواد الأساسية كالرياضيات واللغتين الصينية والإنجليزية، بهدف رفع العبء عن التلاميذ ومراعاة صحتهم العقلية والجسدية، ومواجهة الارتفاع الحاد في تكلفة الدروس الخصوصية. يبلغ السعر الحالي للدروس الخصوصية نحو 200 يوان للساعة، تصل إلى 200 دولار لطلبة المدارس الدولية.
اتجه الأهالي إلى تتبّع مراكز الدروس الخصوصية عبر شبكة الإنترنت، لاكتساب خبرات تمكنهم من التركيز على التدريب المفرط للحصول على درجات جيدة بامتحانات “جاو كاو”.
التف الأهالي على قرار الحظر، بالتوجه إلى التعليم الإبداعي “سوزي” Suzhi الذي انتشر في37 مدينة رئيسية عامَي 2022 و2023، لاكتساب مهارات في الكتابة الأدبية والرياضيات والمواد العلمية والأدبية المؤهلة لامتحانات المرحلتين الثانوية والجامعية، والاستفادة من خبراتها عند التقدم للحصول على وظيفة.
اتجهت الأسر المتوسطة والميسورة إلى تعليم أطفالها للحصول على “البكالوريا الدولية” من ماليزيا وسنغافورة وتايلاند والغرب. أقبل على هذه النوعية الآباء الأثرياء وكبار المسؤولين بالدولة والدارسون بالخارج ممن يسعون للحصول على جنسية أخرى لهم ولأولادهم، أملا في مزيد من فرص عمل أفضل داخل الصين وخارجها.
البشر قبل الحجر
توصلت مراكز الأبحاث بالجامعات التابعة للحزب الشيوعي إلى أن “نظام الامتحانات يفرض ضغوطا صعبة للغاية على الطلبة، في ظاهرة ذات جذور مجتمعية عميقة تعود إلى نظام امتحانات قبول رجال الدولة للعمل بالعصر الإمبراطوري المنتهي منذ 100 عام”.
تعكس الامتحانات حالة الطبقية وعدم المساواة السائدة في دول اشتراكية، يحدد نظام الإقامة “الهوكو” بها نوعية التعليم الذي يمكن للأطفال الحصول عليه، بدءا من المدارس الريفية المتخلفة إلى المدارس الحضرية العالية الأداء.
يشير “دليل تخطيط تنمية المواهب في التصنع” الصادر عن وزارة الموارد البشرية والخدمات الاجتماعية إلى أن الدولة ستواجه فجوة في الطلب على المواهب تبلغ نحو 30 مليون عامل بحلول عام 2025، في عشر مجالات رئيسية منها أشباه الموصلات والروبوت، بما يمثل 48% من حجم الطلب على العمالة الماهرة.
فرض العلماء أجندة تحديث التعليم وامتحانات الثانوية العامة على جدول أعمال الدورة الثالثة للجنة المركزية العشرين للحزب الشيوعي، المنعقدة خلال الفترة من 15 إلى 18 يوليو الجاري، ضمن مناقشة استراتيجيات السياسات الاقتصادية الجديدة التي قد تغيّر التوقعات بشأن مستقبل الاقتصاد الصيني. لم يعد التعليم ترفا وإنما استثمار تجني الدول فوائده في المستقبل إذا أرادت أن يكون لها دور بين الأمم.