حتى يصبح الوزير مسؤولا بحق

وسط جدل درجة الدكتوراة التي حصل -أو لم يحصل- عليها وزير التعليم المصري الجديد محمد عبد اللطيف، غابت القضايا الرئيسية عن النقاش الساخن، وتحوَّل الحوار إلى حالة من الشد والجذب بين مؤكد لعدم صحة الشهادة الجامعية التي حصل عليها الوزير، ومن يراها شهادة حقيقية ويبرر الأمر بأنها لم تكن أكثر من محاولة من الرجل للحصول على خبرة جديدة في مجال التعلم عن بُعد!
وكان وزير التعليم المصري الجديد قد تعرّض لأزمة منذ اليوم الثاني لحلفه اليمين، بعد أن اتهمته منصات تحقق صحفية بعدم الحصول على درجة الدكتوراة، وبأن ما كتبه الوزير في سيرته الذاتية عن حصوله على هذه الدرجة العلمية هو أمر غير صحيح.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
تسليم سلاح المقاومة!.. ماذا تبقى للوطن؟
الجدل استمر لدرجة دفعت رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي إلى التدخل والتأكيد أن القانون ينص على ضرورة حصول الوزير على شهادة جامعية فقط، في محاولة لإنهاء الجدل الذي استمر أيامًا بشأن شهادة عبد اللطيف الذي يترأس وزارة مهمة ومؤثرة.
في الجدل الساخن الذي فاضت به شبكات التواصل الاجتماعي، توارت الأسئلة الرئيسية التي لا ترتبط بالوزير بقدر ما ترتبط بالوزارة ذاتها، وطريقة ومعايير تشكيلها، ثم في ممارسة عملها، وقدرة المسؤولين فيها على الإبداع والتفكير واتخاذ القرارات بصفتهم صُناعا للسياسات لا مجرد موظفين تنفيذيين.
معايير اختيار الوزراء في العالم
في كل مكان في العالم، ولا سيما الدول المتقدمة، هناك معايير متعارف عليها في اختيار الأشخاص للمناصب الوزارية، أول هذه المعايير هو الخبرة والكفاءة، وهنا فإن المعنى المقصود هو درجة تخصص الشخص في المجال الذي سيتولى شؤونه، بما فيها شهاداته العلمية وخبراته العملية وما حققه من نجاح في مسيرته المهنية، وغيرها من صور التفوق والجدارة بالمنصب السياسي الذي يمتلك صلاحيات حقيقية في الدول الديمقراطية.
ثم تأتي النزاهة الشخصية معيارًا رئيسًا في الترشيحات للمناصب الوزارية، والمعنى: الابتعاد بشكل كامل عن كل صور الفساد ومظاهر الانحراف الشخصي والمهني، وتأكيد الاستقامة الشخصية والسياسية في المسيرة العملية والمهنية لكل المرشحين للمناصب الوزارية.
في بعض الدول هناك معيار يرتبط بالممارسة السياسية، أي انتماء الوزير إلى حزب أو تبنيه عقيدة سياسية، ولا سيما أن منصب الوزير هو منصب سياسي في الأصل، ينحصر فيه دور القائم بأعمال الوزارة على رسم السياسات العامة، في حين يقوم بالتنفيذ مسؤولون متخصصون وأصحاب خبرة، ثم يأتي دور الوزير في متابعة تنفيذ الخطط والسياسات وكفاءة التنفيذ.
بهذه الدرجة من الوضوح والشفافية يصل كبار المسؤولين إلى مقاعدهم في الدول الديمقراطية، فلا مجاملات ولا محسوبية، فالكفاءة والنزاهة والخبرة هي المعايير التي لا يمكن التنازل عنها أو التفريط فيها، ثم إن المسؤول نفسه بعد اختياره عليه الخضوع للرقابة من الرأي العام ووسائل الإعلام والبرلمان.
في هذه القواعد الصارمة كلها ما يضمن أن ينجز المسؤول مهمته بنجاح وتفوّق نفتقدهما بشكل كبير في عالمنا العربي.
معايير اختيار الوزراء عربيًّا
في عالمنا العربي -وليس في مصر فقط- تبدو معايير اختيار الوزراء غامضة، رغم التأكيد الدائم من الرؤساء والملوك أن الكفاءة هي المعيار الأساسي في أي اختيار للوزير!
رغم الحديث عن الكفاءة فليس هناك دائمًا ما يدعم الزعم بكونه المعيار الرئيس، فنادرًا ما شهدت أروقة الحكم في الدول العربية وجود وزراء متميزين ومبشرين.
المؤكد أن ما يحسم اختيار الوزراء في عالمنا العربي هو معيار الولاء، فهو الأول والثاني والعاشر، ثم مِن بعده تأتي المعايير الغامضة التي يتحدث عنها مَن في السلطة، ونظل نحن غير متأكدين من صدق ما يدّعون!
بالوضوح نفسه، فإن ما يحكم الاختيارات في عالمنا العربي هو درجة قرب سيادة الوزير المنتظر من دوائر الحكم وأفكار النظام وثقافته، وضمان ألا يخالف رؤية السلطة أو يتبنى نهجًا مستقلًّا عن الأفكار العامة التي تتبناها هي ورجالها الكبار.
ومن هنا فإن الدرجات العلمية والخبرات العملية ليست رقمًا مهمًّا إذا ما قورنت بالولاء والطيبة وحسن السير والسلوك، وهو أمر يجيب عن السؤال المهم: لماذا نتراجع ويتقدم غيرنا؟
هل الوزراء يرسمون السياسات؟
في سياق المقارنة بين الوزراء في عالمنا العربي والعالم المتقدم والدول الديمقراطية، يظهر الدور الحقيقي للوزير.
فليس هناك وزير في الدول الديمقراطية لا يرسم بنفسه السياسات العامة للوزارة، ثم يشرف على تنفيذها بكفاءة، ومن هناك فإن الوزير يمارس دورًا حقيقيًّا وجادًّا في السياسة العامة لوزارته، وبناءً عليه فإنه يتحمل كل نتائج النجاح أو الفشل أمام رأي عام يتابع ويقيّم.
أما في عالمنا العربي، فإن الوزير ليس أكثر من موظف تنفيذي، لا يرسم سياسات، ولا يستطيع أن يتخذ قرارًا مهمًّا دون اللجوء إلى المستوى الأعلى، ثم إنه لا يؤمن كثيرًا بالمساءلة أمام الرأي العام، فكل ما يهمه هو رضاء رئيسه المباشر، في تأكيد واضح أن هذا المسؤول بدرجة وزير ليس أكثر من موظف كبير!
في حساب الوزراء ومساءلتهم في عالمنا العربي هناك مفارقة صارخة وغريبة، فكل نجاح يحققه الوزير -إن حقق نجاحًا في عمله- يُنسب مباشرة إلى رئيسه الأعلى، أما في حال الفشل، وهو كثير ومتكرر في عالمنا العربي أيضًا، فإنه هو من يتحمل -وحده- الفشل ونتائجه، وقد يدفع ثمنه التضحية به وخسارة منصبه فورًا.
في الجدل الذي دار في مصر بشأن وزير التعليم الجديد، وفي كل جدل يمكن أن يدور بشأن الوزراء في الوطن العربي، ننسى أو نتناسى دائمًا ما هو أهم وأبقى، أي ضرورة أن يصبح الوزير مسؤولًا بحق أولًا لا مجرد موظف كبير يتلقى الأوامر وينفذها، ثم أن يملك من الصلاحيات ما يمكّنه من الإنجاز، ثم أن يملك من القدرات العلمية -بعيدًا عن الولاء- ما يتيح له ولنا التقييم والتقويم.
أما إذا استمر اختيار الوزراء يخضع لمنطق الولاء للسلطة، والتغاضي عن كل المؤهلات العلمية والعملية، فإن علينا إراحة أعصابنا والابتعاد عن التعامل مع تعيين أي وزير جديد بوصفه خبرًا مهمًّا وجادًّا.