الدولة العثمانية في الخطاب التعليمي العربي بين العداء والموضوعية

بين الهجوم والاتهام من جهة، والدفاع والموضوعية من جهة أخرى، تأرجحت الانتقادات المقدمة لفترة الخلافة العثمانية وحكمها لبلاد المسلمين في المناهج التعليمية العربية خاصة في مراحل التعليم الابتدائي.
فتداولت مناهج الدراسات الاجتماعية كلمات مثل “الغزو العثماني لمصر والشام”، بدلا من “الفتح العثماني”، وتمت الإشارة إلى الوجود العثماني فيها تحت عنوان “فترة الحكم العثماني لمصر والشام” كما صرح بذلك أحد وزراء التعليم في مصر قائلا: “إن المناهج التعليمية المصرية تتناول فترة الحكم العثماني لمصر، بموضوعية تامة دون تمجيد أو تعظيم للشخصيات التاريخية، وهذا أحد التوجيهات الخاصة بتأليف المناهج”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsفساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
تسليم سلاح المقاومة!.. ماذا تبقى للوطن؟
وأكد أنه تمت الإشارة في المناهج التعليمية المصرية، إلى العديد من مساوئ الحكم العثماني لمصر في كافة المجالات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والفنية، والفكرية، وكيف أنه قد فرض العزلة على مصر، وساد بها الجهل والتخلف نتيجة للركود الذي أصابها أثناء الحكم العثماني.
لماذا الخلافة العثمانية؟
لم يكن هذا هو الهجوم الأول على دولة الخلافة العثمانية التي امتد حكمها ستة قرون كانت في مجملها فتوحات وانتصارات غير مسبوقة حتى كادت تقضي على الجيوش الأوروبية مجتمعة، بل لقد صارت الجيوش الأوروبية أثرا بعد عين في معركة موهاكس الشهيرة حين استطاع السلطان سليمان القانوني بجيش قوامه مئة ألف جندي “سحق” جيوش أوروبا التي كان قوامها مئتي ألف جندي ربعهم مدججون بالحديد تماما في أقل من ساعتين. وقد استطاعت الدولة العثمانية وقتها أن توسع رقعتها العظيمة وتضم المجر إلى أملاكها؛ فصارت تهدد أوروبا في عقر دارها بالفتح الإسلامي الذي لا يوقفه حدّ، كما بدا غير هذا من مظاهر القوة والمنعة لدولة الخلافة العثمانية.
فهل كانت تلك القوة سببا مباشرا في كراهية الغرب للدولة العثمانية خصيصا، ليصبح نصيبها من العداء والتشويه التاريخي أكبر من نصيب غيرها ويمتد ذلك التشويه إلى المناهج المدرسية في بعض البلاد العربية التي تنبع مناهجها من المنهج الغربي العلماني بعد الفصل البيّن بين التعليم الديني والتعليم العام وحدوث ما يشبه الفصل العنصري بين نوعي التعليم في البلد الواحد؟
وقد وقع ذلك بعد تحكم الاستعمار الغربي في وضع المناهج على يد القس الأسكتلندي دوجلاس دانلوب الذي عمل مستشارا للمعارف في مصر عام 1906، فكان من أبرز وأخطر أعماله الحطّ من معلمي اللغة العربية خاصة من الأزهريين ومحاولة إظهارهم بمظهر التخلف والرجعية، في مقابل إعلاء اللغة الإنجليزية ورفع شأن معلميها، ثم وضع بذور النيل من فكرة الخلافة في حد ذاتها لتصير مجرد فكرة “أيديولوجية ” بدلا من كونها كانت فكرة دينية مرتبطة بالثوابت الإسلامية في نفوس المسلمين.
لقد تولدت فكرة الخلاص من الخلافة الإسلامية التي تمثلها الدولة العثمانية الواهنة مع ميلاد فكرة شراء وطن بديل ليهود العالم، التي رفضها آخر خلفاء الدولة العثمانية السلطان عبد الحميد الثاني، فكان لا بد من الخلاص منه ومن دولته نهائيا، وتدخلت المؤامرات التي تواكبت مع وجود الضعف الداخلي والتفكك والخيانات.
وذلك لتسقط الخلافة تماما بغير عودة، ويفقد المسلمون الرابط الأقوى لتوحيد كلمتهم ومواقفهم، واستغل القائمون على التعليم حالة الضعف المستشري للدولة في الفترة الأخيرة من حكمها وما ترتب عليه من سوء حياة مواطنيها لتشويه تاريخ طويل من الانتصارات والقوة والمنعة والعزة التي استطاعت بها القضاء على الدولة البيزنطية التي ظلت أحد عشر قرنا قائمة حتى فتح العثمانيون القسطنطينية ومن بعدها ممالك على مشارف أوروبا واحدة تلو الأخرى.
المناهج العربية وفهم إشكالية الخلافة
وتتباين مفاهيم مصطلح “الخلافة” في المناهج العربية بين مفهومها الإسلامي وهو استخلاف الإنسان في الأرض كما أقره القرآن الكريم في الآية 30 من سورة البقرة {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، وبين مفهومها السياسي في نظام الحكم الذي بدأ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بحكم الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ثم سائر الخلفاء الراشدين من بعده، وتأويل حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه البخاري (2652)، ومسلم (2533) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي اللَّهُ عنه، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ أَقْوَامٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ، وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ” بأن الخيرية هنا تعني نوعية الخلق، ونوعية الحكم على السواء، وأن فكرة الخلافة هنا هي فكرة ملحقة على الأسس الإسلامية.
ومن هنا كان انطلاق الحركة الإسلامية في التاريخ المعاصر على أساس عودة الخلافة بمفهومها الشكلي التاريخي في عصور الرسالة الأولى، وجمع شتات الأمة تحت راية حكم واحدة كإمارات موحدة يحكمها مندوبون عن الخليفة. وفي اعتقادي أن تلك الفكرة التي لم يحسم تاريخيا الفقهاء والمفكرون المسلمون هل هي جزء من الدين أم هي مجرد نظام سياسي شكلي للحكم؟ في اعتقادي أنها كانت سببا كبيرا للعداء المحلي والعالمي للحركة، كما كانت سببا في العداء التاريخي ومحاولات التشويه الكبرى لكل ما تمثله الدولة العثمانية بوصفها آخر معقل للخلافة الإسلامية وآخر دولة تمثل قوة المسلمين العظمى.
ومن هنا فإن المناهج العربية لم تورد مفهوم مصطلح الخلافة إلا بأسوأ صوره، إذ قدمته على أنه الدولة العثمانية الضعيفة التي أرهقت الناس في نهايات حكمها وتسببت في تخلف البلاد التي تحكمها وعزلتها عن الحضارة الحديثة وحركة التطوير السريعة خاصة في القرن التاسع عشر الذي سبق حركة الاستعمار النشطة بكل ما تحمله من استعمار عسكري وفكري واجتماعي ونفسي؛ ليحدث الانشطار الكبير بين التعليم الديني الممثل في الأزهر وموروثاته، والتعليم العام الذي أشرف عليه الاستعمار بشكل مباشر.
التطوير المنهجي المطلوب لإصلاح ما يمكن إصلاحه
إن التطوير المطلوب كي يكون ناجعا ومقبولا، يجب أن يكون بأيد مسلمة متفق على صلاحيتها لعملية التطوير، وهنا ينشأ سؤال منطقي: من يقوم على عملية التطوير؟ وما صلاحياته ومقوماته؟ ومن يعطيه تلك الصلاحيات ليتحكم في عقول الأجيال المقبلة التي سوف تتحدد بها هوية الأمة ومستقبلها؟ هل هو فرد؟ هل هو مؤسسة؟ وما هي صفات هذا الفرد أو المؤسسة وما مرجعيتهما؟ هل هو حركة إسلامية بتوجه ما؟ هل هو وزارة أو دولة؟
إن ما يفصل في هذا الأمر هو علماء الأمة المتفق على نزاهتهم كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين على سبيل المثال، أو مؤسسة الأزهر، ولست هنا أقوم بتحديد جهة، وإنما إثارة فكرة تحرك العلماء نحو إيجاد حل لها، حل لا يثير القلاقل والتناحر الفكري الأممي من جديد، فلا أحد يستطيع ادعاء أنه يملك الحقيقة وحده، أو أنه يملك مفاتيح صحة الطريق والفكر، لكن لا بد من وجود مرجعية مبدئية للبناء عليها في إيجاد هيئة صالحة للقيام بتنقيح المناهج الدراسية الدينية والتاريخية وتهيئة مناخ التغيير بما يتوافق مع الأصول الإسلامية ولا يتعارض مع مصالح الشعوب والدول الإسلامية بل يقوي أحدها الآخر في وقت اتجه العالم فيه لتكوين اتحادات عالمية لمؤازرة بعضه بعضا على أسس قومية في معظم أشكالها، وكان المسلمون أولى بذلك، ولكن ليس بنعرات قومية بل بتوجهات عقائدية لتقوية وحدة الأمة بتوحيد مناهجها وأفكارها.
إن الهجوم الشرس الذي تتعرض له الدولة العثمانية في المناهج الدراسية، ووسائل الإعلام، والأعمال الفنية ليس المقصود منه الدولة التركية بقدر ما كان المقصود منه تشويه فكرة الخلافة بشكلها المعروف الذي كان تاريخيا يمثل مصدر خوف لأوروبا؛ ولذلك تعرضت للحرب من قبل واضعي المناهج في عهد الاستعمار وظلت حتى يومنا هذا.
وواجب الأمة اليوم، أو ما بقي منها أن تعيد النظر في تلك المناهج بمنهجية جديدة تضع كافة الاعتبارات الإقليمية والعالمية في اعتبارها فلا تصطدم من جديد فتعيد الكبوة الكبرى التي تعرضت لها الحركة الإسلامية حين لم تراع تلك الاعتبارات فاصطدمت بها بدلا من الالتفاف عليها فكان مصيرها أهوالًا، ما زالت الأمة تدفع ثمنها حتى اليوم.