في ظلال طوفان الأقصى: حامد ربيع وكيف تفكر إسرائيل؟
ولد العلامة والمفكر العربي حامد عبد الله ربيع، في مدينة القاهرة في إبريل 1925م (توفي في سبتمبر 1989) وبعد أن أنهى تعليمه الثانوي التحق بكلية الحقوق جامعة القاهرة وتخرج فيها سنة 1945م، ثم التحق بسلك النيابة، لكنه لم يستمر فيه طويلا إذ التحق بالعمل الأكاديمي في جامعة الإسكندرية التي ابتعثته إلى الخارج للدراسة، فذهب إلى إيطاليا في إبريل 1948م وظل معتكفا في أحد الأديرة لمدة عشر سنوات، حيث عايش الرهبان وتأثر بهم في الانقطاع الكامل والمجرد للعلم.
وكفلت له السنوات العشر التي قضاها في ذلك الدير، أن يتقن اللغة اللاتينية، وأن يقترب بدرجة كبيرة من الحضارة الغربية المسيحية، وأن يعقد مقارنات بين حضارته وحضارة الآخر، وأن يميز نقاط الضعف والقوة في كلتا الحضارتين، وأدرك حقيقة مهمة العالم الكفاحية المتمثلة في إرشاد أمته وترقيتها من حالات التخلف إلى الرقي والحضارة والتمدن.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنتنياهو وحزب الله.. والرهان على ترامب
النصيب العربي في التجارة الأمريكية وتأثيره السياسي
أنقرة وخطأ الرهان على أوجلان لحل المشكلة الكردية
رحلة العلامة بين الشرق والغرب
وحصل حامد ربيع في مسيرته العلمية الطويلة على خمس رسائل دكتوراه، اثنتان من باريس وثلاث من روما، وعدة دبلومات عليا في تخصصات مختلفة، حيث حصل على الدكتوراه في علم الاجتماع التاريخي مع التخصص في مجتمعات البحر المتوسط، من جامعة روما في نوفمبر 1950م، ونال الدرجة نفسها في فلسفة القانون مع التخصص في النظرية الاجتماعية بعد عدة أشهر في يناير 1951م.
وحصل على درجة الدكتوراه في العلوم النقابية مع التخصص في اقتصاديات العمل في يونيو 1954م، كما حصل على درجة الأستاذية في القانون الروماني في فبراير 1956م، ثم نال درجة دكتوراه الدولة في العلوم القانونية من جامعة باريس في ديسمبر 1959م، ثم درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة باريس أيضا في 1963م.
ونظرا لهذا الكم الكبير من رسائل الدكتوراه التي حصل عليها حامد ربيع، فقد كانت الجامعات المصرية والعربية والعالمية تطمح في أن يقوم بالتدريس فيها؛ ولذا قام بالتدريس في عدة جامعات منها: جامعة القاهرة حيث كان أستاذ كرسي النظرية السياسية بها، وكذلك جامعة باريس، وجامعات دمشق والجزائر وبغداد والكويت والإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة ميشيغان الأمريكية.
في أوائل الستينيات من القرن العشرين، وبعد عودته إلى مصر عمل مساعِدًا للمستشار الشخصي العلمي للرئيس جمال عبد الناصر. ثم عمل ربيع بالتدريس ورئاسة قسم العلوم السياسية في كلية «الاقتصاد والعلوم السياسية» بجامعة القاهرة، التي جعل منها معقل نضاله العلمي ومنطلق مشروعه في تجديد دراسة التراث السياسي الإسلامي والاستفادة منه في تجديد علم السياسة على وضعه الحديث.
وأسس مركز «الدراسات الإنمائية» بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة، ورأس قسم العلوم السياسية بالكلية، كما أشرف على إنشاء المعهد الدبلوماسي التابع لوزارة الخارجية المصرية، كما رأس معهد البحوث والدراسات العربية ببغداد ثم عمل مستشارًا سياسيًّا للرئيس العراقي صدام حسين بداية من 1979 ولنحو ثماني سنوات.
العلامة والتأسيس للدراسات الصهيونية
ويعد حامد ربيع من رواد الدراسات الإسرائيلية والصهيونية، ومن أوائل من أدخلوا دراسة الصهيونية في الجامعات المصرية، حيث كان مهتما بدراسة إسرائيل وجذور ارتباطها بالفكر الصهيوني، والعلاقة بين الديمقراطية البرلمانية داخل إسرائيل وعنصرية الدولة من حيث التمييز بين العرب واليهود، وبين اليهود الشرقيين والغربيين، والقدرة التي تتميز بها إسرائيل في تصدير مشكلاتها الداخلية إلى محيطها الإقليمي، كذلك المزج الإسرائيلي بين الاشتراكية والرأسمالية، والمزج بين القومية والدينية، وبين العلمانية واليهودية.
ورأى أن الكيان الصهيوني يمثل خطرا على الأمن القومي العربي، وأن الصراع بين العرب وإسرائيل هو صراع وجود وليس صراع حدود، ومن ثَم فلا مكان للحديث عن التعايش بين العرب وإسرائيل، ويرجع وجهة نظره إلى عدة مبادئ اعتبر أنها حاكمة لإدراك النخبة الإسرائيلية بغض النظر عن اتجاهاتها السياسية، أهمها: أن السلام يعني من وجهة نظرهم توفير الحد الأدنى من الأمن للدولة العبرية، بما في ذلك حقها في استباق التطورات التي يمكن أن تشكل تهديدا على سلامتها.
كما اهتم حامد ربيع بأهداف المشاريع الغربية في المنطقة العربية في مداها الإستراتيجي، بل وبعض خطواتها التكتيكية، حيث نظر إلى الأهداف الغربية في المنطقة نظرة متكاملة، وكذلك نظر إلى الصراع العربي الإسرائيلي، وأدرك معها أن الخلاص من هذه المشروعات لا يتم إلا بتقوية الذات وعدم الخضوع للهيمنة وأن تكون الدولة العربية دولة كفاحية تمتلك مشروعا وطنيا تتوافق عليه القوى السياسية والاجتماعية طواعية لتحقيق الأهداف الوطنية والقومية.
وقد تعددت اسهاماته الفكرية والثقافية، ومن أهم مؤلفاته: “الثقافة العربية بين الغزو الصهيوني وإرادة التكامل القومي”، و”نحو ثورة القرن الواحد والعشرين: الإسلام والقوى الدولية”، و”التجديد الفكري للتراث الإسلامي وعملية إحياء الوعي القومي”، و”نظرية الأمن القومي العربي: والتطور المعاصر للتعامل الدولي في منطقة الشرق الأوسط”، و”إطار الحركة السياسية في المجتمع الإسرائيلي”، و”مصر تدخل عصر النفايات النووية”، و”اتفاقية كامب ديفيد: قصة حوار بين الثعلب والذئب”، و”التعاون العربي والسياسة البترولية المعاصرة”.
العلامة حامد ربيع وكيف تُفكر إسرائيل؟
من أهم الأعمال الفكرية التي صدرت بعد وفاة العلامة حامد ربيع، كتاب كيف تفكر إسرائيل؟، ضمن سلسلة قراءة في فكر علماء الاستراتيجية، وصدرت الطبعة الأولى عام 1999، وتضمن أربعة فصول أساسية، الأول بعنوان: المنطق العسكري والحرب القادمة، والثاني حول مفاهيم اليهود للسيطرة على المنطقة، والثالث السلاح الصاروخي واختلال موازين القوى، والرابع الإسلام وعملية التخريب من الداخل.
ويعتبر الفصل الثاني من الفصول شديدة الأهمية في هذا الكتاب، حيث قدم تأسيساً وتأصيلًا فكريًا عميقًا لمفاهيم اليهود للسيطرة على المنطقة، وتم تقسيمه إلى ثلاثة مباحث، تناول الأول مفاهيم الليكود عند جابوتنسكي، والأصول الفكرية والمبادئ الستة للكيان، والأصول الفكرية وعملية بناء الدولة اليهودية الكبرى.
ومن بين ما انتهى إليه حامد ربيع، أن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة ليست مجرد علاقة بين دولة صغيرة وإمبراطورية كبرى، بل إنها على العكس من ذلك علاقة بين مجتمع يهودي له وظيفة عالمية بوجود جزء منه في الولايات المتحدة، وهذا الجزء هو السبب في الازدهار والتقدم الذي حققته تلك الولايات المتحدة، والأداة النظامية لذلك المجتمع اليهودي التي تحمل على كتفيها مسؤولية تحقيق تلك الرسالة..
كما أن المساعدة الأمريكية لا يجوز أن تستخدم كسلاح للضغط على إسرائيل، بل إنها نفقات لحماية الوجود الأمريكي في المنطقة، كما يجب أن تدرج في باب النفقات العسكرية وليس المساعدات أو المعونات،
ومثلما أن الشعب اليهودي هو الذي مكن المجتمع الأمريكي من الازدهار والتفوق، فإن إسرائيل هي التي سوف تمكن السياسة الأمريكية من التوغل والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، بل وفى جميع أجزاء البحر المتوسط.
ويضيف حامد ربيع: لقد بقيت أهم نتائج التطور من جانب النظرة الأمريكية إلى إسرائيل على أنها دولة شرق أوسطية، ومن جانب آخر القناعة بأن الدين هو عنصر أساسي في إطار التعامل مع منطقة الشرق الأوسط، وهذان العاملان أحدهما يكمل الآخر.
ويرتبط بعملية التخريب الداخلي والذاتي استخدام الإسلام كورقة فاعلة في الإرباك المحلي وتعميق التناقضات الفكرية والمذهبية، ويرتبط ذلك بالقناعة الصهيونية بأن الدين هو متغير أساسي في الوجود السياسي، وفي الحركة المرتبطة بذلك الوجود سواء من حيث التعامل الذاتي أو الصراع الدولي.
ويضيف حامد ربيع: في بداية الحركة الصهيونية، كانت إحدى أدوات التعامل بقصد تدعيم القناعة بالدعوى الصهيونية، هي عملية الإغراء التي توجهت بها إلى القيادة العثمانية في القسطنطينية، لكن القيادات الإسلامية في عاصمة الخلافة لم تسمح بأن تحيد ولو سنتيمتر واحد عن القناعة برفض كل مطالب الصهيونية مهما حدث من إغراءات، وكانت الإمبراطورية العثمانية صخرة ثابتة.
جوهر الصهيونية عند العلامة حامد ربيع
يُعرِّف حامد ربيع الصهيونية بأنها تلك “العقيدة السياسية التي تقوم على أساس دعوة جميع اليهود للعودة إلى الأرض المقدسة لتكوين الدولة الإسرائيلية استجابة إلى الأمر الإلهي الذي فرض على تلك الجماعة أداء وظيفة حضارية في قيادة الإنسانية المعذبة نحو الكمال الروحي”.
ومن هذا التعريف يحدِّد الخصائص العامة التي تميِّز الصهيونية كعقيدة ومذهب لا يقتصر على مجرد تفسير القائم أو تبريره، وإنما يسعى إلى ذلك التغيير الذي هو جوهر المذهب السياسي، وأن الحصول على الشرعية السياسية التي تتمركز حول فكرة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين يمثِّل الهدف الرئيسي والثابت في الحركة الصهيونية.
لذلك انطلق حامد ربيع في دراسته للكيان الصهيوني من أن الصراع العربي-الإسرائيلي هو صراع حضاري ممتد يحتاج إلى التسلُّح في مواجهته بسلاح معرفة الخصم. وقد حرص ربيع في دراسته للمشروع الصهيوني، دولة وفكرًا وعقيدةً، على تأكيد أهمية الإطار القيمي الحضاري في تحليل المشكلة اليهودية، ومن إجادة توظيف الأدوات الفكرية والحركية، بحيث تجمع بين الجديد والقديم، بين القانوني والاجتماعي، بين النفسي والسلوكي، بين السياسي والاقتصادي، بين الأمني والعسكري.
لذا من الأهمية بمكان تحليل التكوين الطبقي للمجتمع الإسرائيلي كونه مصدرًا رئيسيًّا من مصادر تفجير الصراعات الداخلية، بجانب دراسة المصادر الخارجية وأهميَّتها في تحديد اتجاهات السياسة الداخلية الإسرائيلية وأولويَّاتها والتطوُّر المحتمل في علاقة الدولة العبرية بعناصر المساندة الغربية والأوروبية عموماً، والأمريكية خصوصاً.
وانتهى حامد ربيع إلى أن إسرائيل هي عدو المنطقة الأول، وهي مصدر جميع المآسي التي يعيشها الوطن العربي منذ الحرب العالمية الثانية، وأن سرَّ قوة إسرائيل هو ضعف خصومها، وأن القوة الحقيقية التي يكمن فيها نجاح الدولة العبرية هو تفكُّك ذلك المجتمع المتعفِّن الذي ظلَّت تضربه بقسوة وتركله باحتقار حتى قُدِّرَ له أن يحاول أن يقف على قدميه.
كما انتهى إلى أن حقيقة الصراع العربي-الإسرائيلي ليست مجرد اقتطاع جزء من الأرض، كما أن التحدِّي ليس مجرَّد مشكلة منع العالم العربي من تحقيق وحدته، وإنما هي أكثر من ذلك، إنها السعي نحو تفتيت الحضارة العربية والقضاء على أيِّ ذاتية مشتعلة للوجود العربي كمفهوم مجرَّد للسلوك والحياة، وعملية التسميم المعنوي التي بدأت تشنُّها إسرائيل بدقَّة وصبر ونجاح لا تتَّجه إلى مجرد تفتيت الإرادة القتالية، وإنما تسعى إلى الاستيعاب الكلي والكامل للوجود الحضاري في تلك المنطقة.
وبعد..
إن هذه الأفكار وغيرها، مر عليها نحو أربعين عامًا، إن لم يكن أكثر، فقد تم تجميعها من مقالات متناثرة نشرت على فترات زمنية ممتدة، وتوفي صاحبها عام 1989، ولكن هذه الأفكار، رغم مرور هذه كل هذه العقود عليها، تبقى صامدة في مواجهة كل التحولات التي شهدتها المنطقة، ومرت بها الصهيونية كظاهرة فكرية وحركية، إلا أن الكثيرين من المهتمين بالقضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، يتعاملون مع هذه الأفكار وكأنها تُنشر لأول مرة، وكأن المواجهة تبدأ اليوم فقط.
عقود مفقودة من تاريخ هذه الأمة، بل قرون مفقودة، وأحد الأسباب وراء ذلك أن أغلبنا لا يقرأ، وإذا قرأ لا يتعامل مع ما يقرأه بما يستحقه من أهمية على مستوى الوعي، وأيضًا على مستوى الحركة والمواجهة.