من يشق الصف الفلسطيني؟!

مَنْ الذي يشقُّ الصف الفلسطيني؟
تقول الرئاسة الفلسطينية إنها المقاومة، وترى أن حركة حماس مسؤولة عن المجازر التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وتتهمها في بيان بثته وكالة الأنباء الفلسطينية بأنها “تتهرب من الوحدة الوطنية، وتقدّم الذرائع المجانية للاحتلال، بما يجعلها شريكًا في تحمُّل المسؤولية القانونية والأخلاقية والسياسية عن استمرار حرب الإبادة الإسرائيلية”.
اقرأ أيضا
list of 4 items“ماركات” تحت المجهر: من يصنع الثراء؟ ومن يبيعه؟
نهاية الإخوان!!
الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ المنشاوي في سوهاج
بالتزامن مع البيان الذي صدر عقب مجزرة المواصي، منسوبًا إلى الرئاسة الفلسطينية، وليس إلى الرئيس محمود عباس، أدلى القيادي الفتحاوي منير الجاغوب بتصريحات، لام فيها حماس لأن “مقاتليها يختبئون وسط المدنيين”، ما حدا بجيش الاحتلال إلى ارتكاب المجزرة، لاستهداف قائد كتائب القسّام محمد الضيف، الذي أشيع أنه كان في المنطقة، وهو الأمر الذي نفته حماس، وقال مجرم الحرب نتنياهو إنه لا يملك معلومات مؤكدة بشأنه.
لا حاجة إلى تكرار المكرَّر، من أن تحميل المقاومة مسؤولية سفك الدم الفلسطيني، لا يفيد أحدًا إلا مجرمي الحرب في تل أبيب، وأن بيان الرئاسة -وكذلك تصريحات الجاغوب- تجافي الحقيقة، فالإرهاب الصهيوني الممتد منذ العدوان على غزة، بل منذ نكبة فلسطين قبل 76 عامًا، لا يستقصي عن مبررات أو ينشد تعليلًا، وادعاء وجود الضيف يشبه ادعاء وجود مخازن أسلحة في المستشفيات بعد تدميرها.
عقب البيان والتصريحات، بدا واضحًا أن الرئاسة الفلسطينية في وادٍ، والفصائل الفلسطينية جميعها في وادٍ آخر، إذ اتفقت حركات حماس والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وحركة المجاهدين على أن البيان “غير مناسب”، وارتأت أنه يعطي لجرائم الإبادة الإسرائيلية مبررًا أمام الرأي العام الدولي، وإن عمدت إلى لهجة دبلوماسية أو قل “غير عدائية”.
هكذا، تُظهر مواقف الفصائل الفلسطينية أن الصف الفلسطيني -باستثناء فتح- لم يكن مرصوصًا، كما هو اليوم، بما يستوجب طرح السؤال مرةً ثانية: من الذي يشق هذا الصف؟
فتح وحماس.. إشكالية العلاقة
تبدو العلاقة بين فتح وحماس صورةً مُصغَّرةً للعلاقات بين الأنظمة العسكرية وشبه العسكرية، والجماعات ذات المرجعية الإسلامية، على امتداد الخارطة العربية.
في خمسينيات القرن الماضي، أطاح العسكر في عديد من الأقطار العربية بالأنظمة الملكية، ونشأت جمهوريات الضباط على أساس من شرعية التصدي للمشروع الصهيوني، و”قذف إسرائيل ومن معها في البحر”، وكان منطقيًّا أن تؤيد الجماهير العربية الثورات أو الانقلابات “سمّها ما شئت”، إذ كانت مرارة النكبة في الحلوق، والرغبة في الثأر متأججة، بعد هزيمة الجيوش العربية أمام شراذم العصابات الصهيونية في حرب فلسطين.
شكَّلت الهزيمة المسمار الأخير في نعش أنظمة ملكية، تكلَّست وترهَّلت وانتهى دورها الوظيفي، وفقدت مشروعية وجودها.
في مراحل ما، يغدو التاريخ كحصان جامح، يقفز قفزات واسعة، من دون أن يبالي بالذين يسقطون من فوق ظهره.
كانت شعارات تحرير فلسطين، بغض النظر عن أن ثمة أنظمة رفعتها على سبيل الاستهلاك المحلي، أو الجعجعة الإقليمية، من دون أن تطلق رصاصة واحدة، هي المبرر الأخلاقي والمعنوي لحكم العساكر الناشئ، أو بتعبير أدق، كانت الشرعية مستمَدة من القضية الفلسطينية، وكان الشعار المعتمَد “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”.
وفي منتصف الستينيات، أسَّس ياسر عرفات ورفاقه حركة فتح، فصيلًا مقاومًا، ينص ميثاق تأسيسه على حق الفلسطينيين في رفع السلاح في وجه الاستعمار الاستيطاني، حتى تتحرر فلسطين، بحدودها التاريخية قبل وعد بلفور.
ثم دارت الأيام دورات حادة، فإذا بالعساكر يهرعون إلى تل أبيب لتدشين ما سمَّته دعاية السادات “سلام الشجعان”، الذي استحال “سلامًا دافئًا” في الحقبة الراهنة، كما عدَّلت حركة فتح ميثاقها في منتصف التسعينيات، إثر غرقها في دوامات التفاوض بعد اتفاقية أوسلو، فشطبت حق الكفاح المسلح، بما يعني بداهةً شطب شرعيتها التأسيسية.
بالتوازي مع ذلك، امتطت دول خليجية صهوة البراغماتية السياسية، فهرعت إلى الاتفاقيات الإبراهيمية، ولسان حالها: إذا كانت دول المواجهة والفلسطينيون أنفسهم قد باعوا القضية، فلماذا نتمسك نحن بها؟
الذين خلعوا عباءة المقاومة
ولمّا خلعت الأنظمة العربية الرسمية -تحت عناوين مختلفة- عباءة المقاومة، وأودعت سيوف النضال في أغمادها، حدث فراغ مهول، ملأته تنظيمات وجماعات ذات أيديولوجية إسلامية.
كانت ثورات الربيع العربي قد دقت أجراس الخطر في مسامع الأنظمة العسكرية، إذ أظهرت نتائج الانتخابات الأولى والأخيرة في تاريخ المنطقة البائس، أن القاعدة الجماهيرية تميل إلى الإسلاميين، ومع طوفان الأقصى، وما رافقه من بطولات أسطورية، احتفى بها الضمير العربي الذي صار يستسقي قطرة كرامة، في صحراء التطبيع القاحلة، كان لا بد أن يقلق قاطنو قصور الحكم.
على هذا الأساس، انبثقت حملات شيطنة المقاومة، تحت ذريعة أن “تهورها” وخروجها عن الإجماع الوطني الفلسطيني، قد استفز الاحتلال الذي غدا ينتقم كالأسد الجريح، من أبناء غزة المساكين الذين لا حول لهم ولا قوة.
غير أن الحكاية وما فيها، ليست التعاطف مع الفلسطينيين، بل هي مصالح النخب العربية الحاكمة التي تتلاقى مع المصالح الإسرائيلية، ولو على حساب دماء الشعب الفلسطيني.
إن الأنظمة التي تقاعست عن واجباتها، إما عجزًا وإما خيانةً، وصارت تتمسح في تنطع الهرر الجائعة في أقدام الصهاينة، بل وعجزت أيضًا عن توفير كسرة الخبز، إثر فشلها الاقتصادي الفادح، فغدت مكروهةً مستقبَحةً من شعوبها، قد عمدت إلى ستر سوءاتها عبر تأثيم المقاومة، لوقف صعود نجمها شعبيًّا، لأن ذلك سيشكل بالضرورة خطرًا وجوديًّا على عروشها المُخلخَلة.
لا فرق في هذا الصدد بين فتح وأي عاصمة عربية تعادي المقاومة، في إطار عدائها مع كل ما هو إسلامي، فالدوافع والأهداف والمنطلقات واحدة.
هناك نكتة شهيرة فحواها أن تاجر ساعات يهوديًّا مات ابنه، فنعاه في إعلان مدفوع بصحيفة: “كوهين ينعى ولده”، فقيل له إن بوسعه إضافة كلمتين مجانًا، فأراد الرجل أن يستفيد رغم الكارثة، فألحق بالنعي “ويُصلح ساعات”.
العاجزون أو المتآمرون الذين يذرفون دموع التماسيح على دماء الفلسطينيين، ولا يبادرون إلا إلى تأثيم المقاومة، كذلك يفعلون “ينعون ويصلحون ساعات”، في محاولة لزجة لاستثمار المأساة لجني أي مكاسب، فلا هم تعنيهم غزة، وليس في قلوبهم وضمائرهم إلا مشاعر الخوف على انهيار عروشهم.