آمنة بنت وهب في وجدان النبي محمد صلى الله عليه وسلم

المسجد النبوي بالمدينة المنورة (الأناضول)

في السيرة النبوية مساحات لم تنل حقها من التناول، وتم التركيز في جل تناولها على الغزوات، والجوانب التي تبرز في الحياة بصفة عامة، لكن الجانب الإنساني بشكل دقيق ظل إلى فترة قريبة بعيدا عن تناول كتاب السيرة، وولج بعض الكتاب المعاصرين هذا الباب، وإن لم يحيطوا به إحاطة كاملة، ولكنهم كتبوا إشارات مهمة تبين السبيل الهادي إلى هذا اللون من الكتابة.

جانب غير مطروق من السيرة

فهناك جانب مهم لم يطرق في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الجانب الإنساني المتعلق بصلته بوالدته، فقد ركز كثيرون على محمد الأب، والزوج، وتناول بعضهم معاملته لأزواج بناته، وإن كان تناولا خفيفا يحتاج إلى إشباع، لكن الجانب الأخطر الذي لم يتم التطرق إليه بشكل مفصل هو محمد الابن، وقد طال حديث المتكلمين والكتاب في تراثنا عن والدي النبي صلى الله عليه وسلم من جهة واحدة، هل هما في النار أم لا؟ أم أنهما من أهل الفترة التي لا يشملهم العقاب؟ بينما أهمل الجانب الأبرز والأهم، والذي يعد أكثر جدوى ونفعا. كيف كانت مكانة أمه لديه؟ حيث إن والده توفي وهو في بطنها، فلم يره ولم يعرفه، ولا يذكر من تفاصيل حياته شيئا.

لكن الأم عاشت في حياته ست سنوات، ثم توفيت في رحلة كانت تصحبه معها، لقد كتبت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ)، كتابا بعنوان: أم الرسول محمد آمنة بنت وهب، ولكنها ركزت على تناول شخصية الأم، ومكانتها، وتاريخها، وشرفها، وعلو كعبها بين العرب عقلا وخلقا، وهو كتاب كان -ولا يزال- وحيدا في زمانه، يتناول أم النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الجانب الأهم هنا الذي لم يتم التطرق إليه حتى الآن، هو الابن، كيف كانت تعيش الأم في وجدانه؟ وكيف كانت لوعة فراقها في قلبه؟ وكيف بحث في هذه الدنيا عن عوض الحنان عنها؟ ومن قام بهذا الدور؟

لوعة الابن على فقد الأم

لقد ماتت أم النبي صلى الله عليه وسلم وهي في رحلة به لزيارة أهلها، وفي الأبواء وهي منطقة بين مكة والمدينة، فاضت روحها، ولا تحدثنا كتب السيرة عن مشهد الفراق والوداع لأم تنازع الروح، وتترك يتيمها وحيدا في الحياة، وكم من الزمن بقيت أمامه وهي تحتضر، وهي شابة في ريعان شبابها، فلم تكن مسنة تشكو الألم والمرض، ويكون ذلك تمهيدا لوفاتها، وموتها أمام ناظريه له هيبة ورهبة، وله ألم ولوعة في القلب.

لا تحدثنا كتب السيرة عن أي تفاصيل في ذلك، لكننا يمكن أن نلتقط بعض الملامح، وذلك من نص قصير جدا، لكنه يشرح بجلاء، كيف بقيت لوعة فراق أم محمد صلى الله عليه وسلم في قلبه لم ينس ذلك رغم مرور الزمن، ولو تأملنا حال طفل عمره ست سنوات، ماذا يذكر من تفاصيل للأم؟ غالبا يذكر ملامح عامة، وتفاصيل عامة، لكن ألم لوعة الفقد لم تفارق قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فبعد خمسين عاما من وفاة أمه، وهو ذاهب للعمرة التي سميت عمرة القضاء، مر رسول الله صلى الله عليه وسلم فى عمرة الحديبية بالأبواء فقال: إن الله قد أذن لمحمد فى زيارة قبر أمه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصلحه وبكى عنده، وبكى المسلمون لبكاء رسول الله، فقيل له، فقال: أدركتني رحمتها فبكيت.

وكان ممن استقبله ورآه باكيا: عمر رضي الله عنه، وكان من أجرأ الناس عليه، فقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! ما الذي أبكاك؟ فقال: هذا قبر أمي سألت ربي الزيارة فأذن لي، وسألته الاستغفار فلم يأذن لي، فذكرتها فرققت فبكيت، فلم ير يوما كان أكثر باكيا من يومئذ.

أمهات عوضن اليتيم عن أمه

وبين هذين المشهدين، مشهد فقد الأم واللوعة عليها، ومشهد البكاء على قبرها: خمسون عاما، كيف قضاها الابن المكلوم في أمه، والممتلئ لوعة وحزنا على فقد أمه؟ ومن حاول ملء جانب من هذا الفقد واللوعة؟ إننا نجد شخصيتين مهمتين في حياته صلى الله عليه وسلم، نجد ملامح عن إحداهما، ونجد قليلا من الأخبار عن الأخرى، أما التي لا تفاصيل كثيرة عنها، فهي زوجة عمه السيدة فاطمة بنت أسد، فقد كفله عمه أبو طالب بعد وفاة جده، وكان رجلا فقيرا ذا عيال، ومع ذلك لا نجد أخبارا عن هذه الزوجة الفقيرة، وصاحبة العيال، التي رعت هذا اليتيم، نلتقط خيطا واحدا، من خلال تسمية النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة على اسمها، وهي أشبه وأقرب بناته سمتا بأبيها، أي أنها أحب بناته إليه، فللتسمية إذن سبب، ولا نعلم -فيما بحثت- سببا لتسمية بقية البنات.

أمه بعد أمه وبقية أهله

أما السيدة الأخرى التي نجد عنها بعض التفاصيل التي تعطينا ملامح عن محمد الابن، فهي السيدة أم أيمن، التي كان يناديها بأمي بعد أمي، رغم أنها كانت رقيقة من الحبشة، وقد ورثها عن جده عبد المطلب، ولأن أم أيمن كانت أما تعوضه عن فقد أمه، فقد ظلت مكانتها لديه أثيرة، وظل كل من له صلة بها أثيرا لديه، فهي أم أسامة بن زيد، وزوجة زيد بعد طلاق زينب بنت جحش منه، واستمدت مكانتها تلك من رعايتها وحبها لمحمد صلى الله عليه وسلم، وكانت معه حين ماتت أمه.

ولم نجد أحدا من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زوجاته، يتجرأ على الدخول في مساحات معه سوى هذه السيدة، فحين يقدم له زوجاته طعاما، إن أحبه أكله، وإن عافه لم يأكل، دون تعقيب، منه أو منهن، أما مع أم أيمن فالأمر يختلف تماما، فهو حديث ابن مع أمه، بكل ما تعنيه الأمومة والبنوة من معان.

فإذا صنعت له طعاما، يرى أنه يمكن أن يكون أجود من ذلك، يقترح، كما ورد أن ‌أم ‌أيمن غربلت دقيقا لتصنع لرسول الله صلى الله عليه وسلم رغيفا، فمر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ فقالت: طعام نصنعه في أرضنا، فأحببت أن أصنع لك رغيفا، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: “رديه، ثم اعجنيه”، وذات مرة صنعت طعاما فلم يعجبه، فتسخط عليه، فتسخطت عليه صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يجرؤ على هذه الفعلة سواها، لمكانتها منه.

وقد دخلت أم أيمن على السيدة فاطمة يوما فرأتها حزينة، فلما سألتها لم تخبرها، فقالت أم أيمن: ما لك؟ فوالله ما كان أبوك يكتمني شيئا. ولما توفيت ابنته زينب، كانت أم أيمن ممن غسلوها. فقد كانت أمًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وجدة لبناته، بكل ما تعنيه الجدة من مكانة وتقدير.

ومن يبحث عن أم أيمن، ونظرة المجتمع العربي آنذاك إليها وإلى مثيلاتها، يتعجب من هذه المكانة عند النبي صلى الله عليه وسلم، فهي كانت إرثا، والعرب تنظر إلى الجواري على أنهن من الأملاك، كأي شيء يملكه الإنسان في بيته، بينما كانت نظرة السيدة للطفل محمد صلى الله عليه وسلم نظرة أم لابنها، ونظرته إليها نظرة ابن لأمه، عوضته كثيرا عن فقدان الأم، وأزاحت عنه كثيرا من لوعته على فقدها. وأدرك ذلك صحابته الكرام، فكانوا يزرونها معه في حياته، فلما انتقل الرسول إلى الرفيق الأعلى، ذهب إليها أبو بكر وعمر لزيارتها، قصدوا بذلك البر برسول الله صلى الله عليه وسلم في أمه بعد أمه. فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأم أيمن: يا أمه. وكان إذا نظر إليها قال: هذه بقية أهل بيتي.

وتروي بعض كتب السنة والتراجم، مواقف لها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمازحها، ويباسطها، ويبث شجونه وهمومه، ويستشيرها في أخص ما في حياته، وأهل بيته، ومثل هذه المواقف تعطي ملامح مهمة عن جوانب مجهولة، أو غير مطروقة من إنسانية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان