سلطة السيد المسؤول

كان السيد المحافظ يتحرك في طرقات المستشفى العام بمحافظة سوهاج في صعيد مصر بينما يقف جميع من حوله وكأنهم في وضع “انتباه” للمسؤول الكبير الذي يتفقد المكان الذي يزدحم بالمرضى، ولم ينس الموظف الحكومي أن يستدعي معه الصحفيين والمصورين لكي تكتمل “الصورة”.
في استكمال مشهد “التفقد” كان المحافظ يوزع الاتهامات يمينًا ويسارًا، “يشخط” بحسم في الواقفين، للدرجة التي أوصلته إلى توجيه إهانة بالغة لطبيبة تمارس عملها في المستشفى بعد أن اتهمها بصيغة حادة وبطريقة مسيئة “بانعدام الضمير”.
اقرأ أيضا
list of 4 items«طلعت حرب راجع».. مؤتمر وصاحبه غائب
نتنياهو في المصيدة السورية
سعد الهلالي والبحث عن الفتاوى الشاذة
قبلها بأيام قليلة كان السيد محافظ الدقهلية “يتتبع” امرأة بسيطة حتى منزلها متخفيًا، ثم يقتحم المنزل ويتهمها بالحصول على أربعة أكياس من العيش “الخبز”، على اعتبار أن ما فعلته هذه المرأة الفقيرة يخالف القانون الذي لا يسمح إلا بكيس واحد لكل مواطن!
في مشهد الاقتحام -الذي كان يغطيه الصحفيون أيضًا- لم يلفت نظر السيد المحافظ فقر المرأة وأحوالها المعيشية الصعبة التي تظهر بجلاء على مكان سكنها، لكن الأهم كان الحصول على لقطة المسؤول الحازم، فالبيئة السياسية ترسخ لفكرة أن المسؤول الحكومي لا يمكن إلا أن يكون حازمًا وحاسمًا مع المواطنين، وإلا فقد عوامل الهيبة والسطوة والتسلط على الناس!
صورة المسؤول وسطوته عند العرب
في ثقافتنا العربية تبدو صورة المسؤول الحاسم والحازم و”المسيطر” أساسية في قصور الحكم، وترتبط ارتباطًا وثيقًا بترسيخ فكرة أن المسؤول الكبير هو القائد والرمز و”كبير العيلة”، وهو الحكيم والفذ والأب الذي يجب أن يخشاه الناس باعتبارهم مجرد رعية لا مواطنين أصحاب حقوق!
في الوطن الممتد من المحيط إلى الخليج، ليس القانون ولا الدستور هو من ينظم علاقة الحاكم بالمحكوم، بل قدرة الحاكم على أن يكون في نظر المحكومين قويًّا، والقوة هنا لا يحدد مداها القانون، بل قدرة سيادته على استدعاء كل صيغ التسلط والاستبداد وكتم الأنفاس “لتخويف” الجميع، ثم قدرته على جمع السلطة كلها في يده، فهو الذي يفكر ويقرر ويأمر، وعلى الجميع الطاعة بلا نقاش وإلا فإن العواقب ستكون وخيمة!
في تاريخنا القديم هناك ما يكرس لصيغة انفراد الحاكم بكل السلطات والأفكار والقرارات، بداية من حكم “القبيلة” الذي يضع السلطة في يد عدد قليل من الأفراد أو العائلات، وحتى الحكم الاستبدادي القائم على تسلط حكام أو أحزاب سياسية على كل المجالات والمساحات، وما بين حكم القبيلة قديمًا وحكم الاستبداد الحديث لا وجود لما يسمى المواطن، فهو الذي يدفع الأثمان في كل الحالات، وليس عليه أن يرفض أو يحتج.
مرة واحدة فقط حاولت الشعوب تغيير صيغة العقد بين الحاكم والمحكوم حينما تفجرت احتجاجات الربيع العربي في عام 2011، ففي تقديري أن المطلب -الضمني- الأول والأهم في التحركات الشعبية وقتها كان هو هزيمة التسلط والاستبداد، والاتفاق على عقد اجتماعي جديد يكون المواطن فيه هو السيد والحاكم، لكن المحاولة المهمة انهزمت في جولتها الأولى، وعادت صيغة الحاكم الضرورة والقائد الأعلى لتتحكم من جديد، صحيح أن الحراك الشعبي غيّر كثيرًا في وعي الشعوب ولا سيما أجيالها الجديدة، إلا أن ثقافة المركزية المترسخة في عالمنا العربي منذ مئات السنين ما زالت قادرة على أن تقاوم وتبدل أشكالها لكي تستحوذ وتسيطر مرة أخرى وربما تكون الأخيرة، خاصة مع التطور المذهل في الوعي والتقدم التكنولوجي والاتصال بين الشعوب والأفكار.
العلاقة بين السلطة والمساءلة
كنت في طريقي إلى إحدى المؤسسات الحكومية نهارًا، وبينما كنت قبلها بقليل أشاهد الإعلانات التي تدعو الناس إلى ترشيد الكهرباء عبر وسائل الإعلام، لمحت أعمدة الإنارة مضاءة في وضح النهار، وبلا سبب منطقي من أي نوع.
هذا المسؤول الذي ترك الأنوار تعمل وسط أزمة عنيفة لانقطاع الكهرباء يشكو منها المواطن ليل نهار، وتكلف الدولة ملايين الجنيهات على الإعلانات التي تدعو إلى الترشيد، أشك بشدة أنه تعرّض لأي عقاب أو مساءلة أو حتى انتقاد، وإلا ما تكرر هذا الخطأ الجسيم مرات عديدة.
هنا تكمن الحكاية!
والحكاية باختصار هي الارتباط الوثيق بين النجاح والمساءلة، فالسلطة المطلقة التي هي مَفسدة مطلقة من الطبيعي أن تهدر الموارد وتبدد أي أمل في التقدم أو الخلاص من المشكلات المزمنة.
في حسابات السياسة وفي كل الدول التي سبقتنا إلى التقدم بسنوات طويلة، ينظر الناس إلى التسلط وغياب الرقابة على المسؤولين باعتبارهم دوافع للتخلف، وإلى المسؤول العام باعتباره إنسانًا يخطيء ويصيب، وإذا غابت الرقابة والمساءلة وتحول هذا الموظف الكبير إلى شخص أقوى من القانون فإن الفساد سينتشر والفشل سيكون حتميًّا ومرادفًا طبيعيًّا للتسلط والاستبداد!
اختراعات العالم المتقدم للرقابة على المسؤولين
في الأنظمة السياسية الحديثة، اخترع الناس وسائل يمكن من خلالها فرض الرقابة على الموظف العام، لمنعه من الحصول على سلطة مطلقة يستخدمها في مواجهة الناس، كل تلك “الاختراعات” ما زالت في عالمنا العربي معطلة.
فالبرلمانات المنتخبة بحرية من الشعوب ليس دورها وضع التشريعات فقط، بل إن دورها المهم المعطل في البلدان العربية هو الرقابة على أداء الحكومة وموظفيها، ومراقبة كل صور الفساد والانحراف والتعسف في استخدام السلطة.
هذه الصيغة السياسية تضمن التوازن بين السلطات، وتفرض رقابة سياسية وقانونية على تصرفات رجال الحكومة بما يقلل من الفساد وإهدار الموارد.
في عالمنا العربي لا برلمانات حقيقية، فالغالب هو تشكيل مجالس النواب من أصحاب الولاء للسلطة وعن طريق أجهزتها الأمنية، فيتحول دورها إلى مجرد “ديكور” شكلي يكمل صورة الدولة لكنها لا تقدّم ناتجًا حقيقيًّا، ولا تنحاز إلى جمهور الناخبين، بل إن بعض البلاد العربية ليس بها برلمانات أصلًا، لكن مجرد مجالس شورى تعيّنها السلطة التنفيذية لتقوم بالرقابة عليها!
اختراعات العالم المتقدم لم تتوقف على البرلمان، بل تمسكت باختراع آخر اسمه الصحافة!
هذه المهنة هي وسيلة للرقابة على المسؤولين، لكنها لا تقدّم التقارير إلى جهات رسمية بل تقدمها إلى الرأي العام، أي إلى المواطن نفسه، وهو الذي عليه بعد ذلك أن يقيّم مدى نجاح السلطة الحاكمة وخلوها من الفساد واستحقاقها أن تحكم من جديد في اختراع آخر اسمه الانتخابات العامة!
في تقارير العالم عن حرية الصحافة التي هي إحدى وسائل الرقابة على سلطات المسؤول المطلقة، يظهر العالم العربي في ذيل القائمة، لأن السلطة باستبدادها تنتصر على كل صور الرقابة عليها، فهي التي تعيّن البرلمان، وهي التي تحاصر الصحافة.
في الرغبة للانتقال من العصور الوسطى والوصول إلى العصر الحديث يقف المواطن العربي في انتظار الديمقراطية!
فالمسؤول الذي لا يراقبه أحد، والذي هو أقوى من القانون والدستور، والذي ينظر إلى المواطنين باعتبارهم رعايا انتهى من العالم كله، وبات هذا المسؤول -منذ سنوات طويلة- مجرد موظف يعمل عند الشعب ويراقبه الشعب، يفصلنا عن هذه الصيغة التي وصل إليها العالم غياب الديمقراطية، أي قدرة الشعوب على اختيار حكامها ومساءلتهم.
وفي الطريق إلى الديمقراطية لا يزال هناك الكثير من العقبات و”المطبات” لكي تسود في وطننا العربي، لكن ظني -وربما أملي- أن التاريخ لا تتوقف حركته، وأن التطور سيفرض نفسه على الجميع مهما طال الزمن، ومهما تمادى السيد المسؤول في “الشخط” والتهليل والصراخ في وجه المواطن!