لماذا يهتز نظام الصين لفضيحة “الزيت المسموم”؟!

شاشة عملاقة تعرض لقطات من خطاب الرئيس الصيني في مؤتمر الحزب الشيوعي (رويترز)

 

للمرة الثانية خلال عامين، تدفع أزمة عامة السلطات الصينية إلى الانصياع لصوت الشعب وما يبثه على وسائل التواصل الاجتماعي. تحركت السلطات بعد أن ألقت فضيحة “زيوت الطعام السامة” بحجر في بحيرة فساد واسعة يديرها مسؤولون وشركات حكومية، سعيا وراء الربح على حساب صحة المواطنين.

يحذر رئيس الصين شي جين بينغ من الأزمات غير المتوقعة، فطلب من مرؤوسيه -قبيل انعقاد الجلسة الكاملة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الأسبوع الماضي التي تجتمع كل 5 سنوات لمناقشة قضايا “الازدهار المشترك”- وضع ملف أزمة الأغذية الفاسدة على قائمة الأولويات، ضمن مناقشات عميقة استهدفت تحديد رؤية الصين التفصيلية لإدارة ثاني أكبر اقتصاد في العالم، في حقبة محفوفة بمخاطر الكساد وحروب واسعة.

يخشى النظام تزايد الاحتجاجات العمالية والشعبية المثيرة للقلق، مع تفجر السخط العام من خفوت الاقتصاد وتآكل الثقة في قيادات الحزب الشيوعي الحاكم.

تُعَد استجابة الرئيس لمطالب المواطنين التي انطلقت من شبكات التواصل الاجتماعي الثانية من نوعها، حيث اضطر في يناير/كانون الثاني 2023 إلى وقف الحظر الصارم الذي تمسّك به لمدة 3 أعوام لمواجهة جائحة كوفيد-19، بعد مظاهرات شعبية قادها ناشطون احتجاجا على قسوة الإجراءات، وتسببها في تباطؤ الاقتصاد، وبث التشاؤم من السوق الصينية.

زيت الطعام المسموم

فجّرت فضيحة زيت الطعام الملوث بالسموم غضبا عارما ضد السلطات المتهمة بالتساهل في قضية سلامة الغذاء، بما يهدد بإصابة المواطنين بالفشل الكلوي والأمراض الخبيثة. زاد الغضب حينما تتبعت الصحف الرسمية ما نشره مستهلكون على موقع “ويبو” الموازي لموقع “إكس” من وقائع مصورة، وتحولت إلى قصص إخبارية مثيرة بصحف رسمية. عرضت صحيفة “بيجين نيوز” الصادرة عن لجنة الحزب الشيوعي بالعاصمة تقارير عن نقل زيت الطعام بين المدن في شاحنات محروقات سائلة مستخرجة من مناجم الفحم.

رصد شباب الصحفيين مسار الشاحنات على الطرق، واثبتوا تبعيتها لـ”سينو جرين” الحكومية محتكرة عمليات الشحن وتوريد زيوت الطعام، التي تنتجها نحو 150 مليون مزرعة بمشاركة مجموعة “هوبفل” للحبوب والزيوت.

أثبتت التقارير أن “سينو جرين” Sinograin العملاقة متورطة بنقل منتجات الطعام على سفن شحن، دون أن تنظفها من مخلفات الوقود، قبل إعادة شحنها بزيت الطعام. أظهرت أن الاستخدام المزدوج للناقلات كان “سرا معروفا” بين العاملين بشركات الشحن لخفض التكاليف.

في دراسة أجرتها لوانغ يوان ليانغ بجامعة “هونان” الزراعية، أكدت نقل 75% من الزيوت النباتية في حاويات إلى المصانع، وإعادة تعبئتها للمستهلكين أو استخدامها في صنع منتجات أخرى، وأن الذين لا يشترون زيت الطهي من الشركات المتورطة في تلك الجريمة، ربما تناولوا زيتا ملوثا بالأطعمة الملوثة جراء عمليات النقل غير النظيف.

أكلات بزيوت الصرف الصحي

فساد الغذاء من القضايا الخطيرة المنتشرة في المجتمع الصيني، عادة ما يجري التستر عليها من جانب الأفراد والمسؤولين طمعا في خفض تكاليف التشغيل وتحقيق أرباح هائلة.

يمكن رؤية آلاف التقارير المصورة على الإنترنت، تُظهر مسؤولي مطاعم شعبية وهم يجمعون مخلفات الطهي وقلي زيت الطعام الملقى به في مجاري الصرف الصحي، لإعادة تدويره واستخدامه.

تُمارَس الظاهرة علنا أمام الناس والأجهزة الرسمية، ولم يُلتفت إليها إلا حديثا بعدما وظفتها وسائل إعلام غربية كأداة للطعن بقدرة السلطات في السيطرة على إدارة إجراءات السلامة والصحة العامة، التي تهدد صحة المواطنين والمستهلكين في أنحاء العالم.

بعد وضع الحكومة لوائح “سلامة الغذاء” عام 2009، وإنشاء “لجنة سلامة الغذاء” عام 2010، ومراجعة قانون سلامة الغذاء مرتين، لتشديد عقوبة المخالفين، كشف تلفزيون مقاطعة “هونان” جنوب غربي الصين عام 2015 عن نقل زيت الطهي بشاحنات مستخدَمة لنقل مواد كيماوية سامة. انتهي الأمر بعقاب الشركة المتورطة، دون وضع منهج رقابي صارم، يُطبَّق في أنحاء البلاد.

اعتدنا عند السفر إلى بيجين خلال تلك الفترة، أن يطلب منا الأصدقاء الصينيون شراء “حليب الأطفال” المنتج في مصر والدول العربية أو الغربية، بكميات كبيرة لأطفالهم، لفقدهم الثقة بمنتجاتهم المحلية، بعد فضيحة “الألبان المسرطنة” التي اكتُشفت عام 2008.

خلطت الشركات الحكومية المنتجة للألبان -لسنوات- حليب الأطفال بمسحوق السيراميك “الميلامين” السام، فأصابت أكثر من 300 ألف طفل بمرض السرطان، وقتلت 6 أطفال على الأقل، طمعا في الربح على حساب الأسر التي لم يكن لديها فرصة لإنجاب أكثر من طفل واحد.

أعقب الكارثة ظهور “الشكولاتة السامة” و”صلصلة الفلفل الأحمر المتعفنة”، وسط مخاوف من ارتفاع معدل التلوث الصناعي والبيئي في المدن الكبرى.

قوة الرأي العام

غضبة الجمهور عكست ارتفاع وعيه بأهمية دوره في دفع السلطة نحو تغيير سياساتها، وفهمه للوسائل التي يمكن أن يوظفها في مواجهة نظام استبدادي، دون أن يمنحه فرصه للالتفاف على مطالبه، أو الدفع به نحو مواجهة ساخنة محسومة للطرف الأقوى المتحكم في السلطة والثروة والجيش.

يناور الغاضبون، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لثقب جدران صمت مطبق يُفرض بقسوة. يندد الناشطون بالقوة الغاشمة التي تمكّن السلطة من كبت حرية التعبير والرقابة الصارمة على تصرفات المواطنين في كل مكان على مدار الساعة، والسيطرة الصارمة على وسائل الإعلام، ويُظهرون مدى تساهلها مع الفساد الذي يرتكبه كبار المسؤولين على حساب صحة شعب بأكمله.

يُذكّر غاضبون الرئيس شي جين بينغ بشعارات رنانة، أطلقها عقب توليه السلطة عام 2013 “إذا كان حزبنا غير قادر على ضمان سلامة الغذاء، ولا يمكنه ذلك على المدى البعيد، فسوف يبدأ الناس في التساؤل عما إذا كنا مؤهلين للحكم من عدمه؟!”.

نجحت مناورات الغاضبين في دفع الإعلام الرسمي إلى تبنّي حملتهم، فتحولت شكواهم إلى قضية رأي عام، تناولته قنوات التلفزيون الحكومي.

ذكرت صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست” أن مجلس الوزراء كلف فريقا للتحقيق، يضم هيئات حكومية ووزارتَي الأمن العام والنقل ولجنة الإصلاح ومكافحة الفساد. شكلت مدينة تيانجين ومقاطعة “خبي” لجان موازية لملاحقة المتسببين في الفضيحة.

سماسرة الفساد

رغم اعتراف الرئيس بضرورة الإصلاح لإعادة بناء الثقة في الاقتصاد والأسواق، فلم تسلم حملات الغاضبين من ملاحقة رجال السلطة والجماعات المستفيدة من منظومة الفساد، التي تتستر -عادة- تحت شعارات وطنية جوفاء. قيدت نشر كلمات تخص فساد الأغذية وكبار المسؤولين بالدولة، وحذفوا مقالات ومقاطع الفيديو من الإنترنت التي تُظهر سوء عمليات النقل وشفط الزيوت من مجاري الصرف.

عندما نشرت مجلة “كايكسين” Caixin الاقتصادية تقريرا، يوم 12 من يوليو/تموز الجاري، عن “نقل سفن الشحن الحكومية زيت الطعام، بعد نقل الوقود السام مباشرة دون تنظيف لعنابر الشحن” لتوفير 55 دولارا، أزيل من وسائل التواصل. أغلقت السلطات موقعا لوجيستيا لتتبُّع مسار شاحنات النقل، استخدمه أحد الصحفيين الاستقصائيين في رصد الشاحنات الناقلة للزيوت السامة، وعطلت حسابه على “ويبو”.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان