ما بعد عنتيي: رهانات خاسرة في مواجهة مخططات نافذة
صادقت دولة جنوب السودان على اتفاقية الإطار التعاوني لحوض النيل، المعروفة باسم اتفاقية عنتيبي، تلك الاتفاقية التي تعود بداياتها إلى 14 مايو/ آيار 2010 عندما وقعت أربعة دول هي إثيوبيا وتنزانيا وأوغندا ورواندا عليها، ثم انضمت إليها كينيا وبوروندي.>
ولم تتم إجراءات المصادقة على الاتفاقية رسميًا في الدول التي وقعت عليها إلا في يونيو/ حزيران 2013، عندما صادقت عليها إثيوبيا، ثم صادقت رواندا في أغسطس/ آب 2013، وفي عام 2015 صادقت تنزانيا، ثم أوغندا 2019، ثم بوروندي في عام 2023، وصولاً إلى تصديق جنوب السودان في يوليو 2024.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعن الصواريخ الإيرانية وما بعدها
كلمات وقنابل: كيف تبرر وسائل الإعلام الغربية الجرائم الإسرائيلية ضد الإنسانية؟!
حرائق الشرق الأوسط ورصاصة الرحمة على الأمم المتحدة!
ليكون عدد الدول التي قامت بالتصديق فعلياً 6 دول من إجمالي 11 دولة تُشكل دول حوض النيل (هي: بوروندي، ورواند، وأوغندا، وتنزانيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وكينيا، وإثيوبيا، وجنوب السودان، والسودان ومصر، بجانب إريتريا بصفة مراقب).
تحفظات مصر على بنود اتفاقية عنتيبي:
بموجب اتفاقية عنتيبي تنتهي الحصص التاريخية لمصر والسودان في مياه نهر النيل والمعمول بها وفقًا لاتفاقيات 1929 و1959، حيث رفض الموقعون عليها تضمين الإشارة إلى هاتين الاتفاقيتين في نصوص الاتفاقية الجديدة، التي أدخلت للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين دول المنبع والمصب مفهوم “توزيع المياه العادل”، والقائم على إعادة تقسيم حصص المياه بين دول الحوض بما يراعي نسبة إسهام كل منها في موارد نهر النيل المائية.
كما ألغت الاتفاقية ضمنيًا الحظر التاريخي على دول المنبع بإقامة منشآت على ضفاف النيل التي قد تعوق تدفق مياهه لدول المصب، كما ألغت حق الجانب المصري في التحفظ على تلك المشروعات، ولم تعد موافقة مصر شرطًا مطلوبًا للبدء في هذه المشروعات.
فقد نص الباب الرابع من الاتفاقية على أن “دول مبادرة حوض النيل تنتفع انتفاعاً منصفاً ومعقولاً من موارد مياه المنظومة المائية لنهر النيل، على وجه الخصوص الموارد المائية التي يمكن تطويرها بواسطة دول مبادرة حوض النيل وفق رؤية لانتفاع معقول، آخذين في الاعتبار المخاوف حول حماية الموارد المائية، وأن كل دولة من دول المبادرة لها حق الانتفاع من الموارد المائية للمنظومة المائية لنهر النيل”.
وكذلك “ضمان الاستخدام المنصف والمعقول لموارد المنظومة المائية لنهر النيل وعلى دول المبادرة أن تأخذ في اعتبارها الظروف المتعلقة بالموارد بما فيها محدوديتها، جغرافياً وهيدرولوجياً وبيئياً، وكل العوامل الطبيعية المتعلقة بذلك، وكذلك الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية التي تهم دول المبادرة، ومصالح السكان المعتمدين على الموارد المائية في كل دولة، والتأثيرات على استخدامات الموارد المائية في الدولة والدول الأخرى من دول المبادرة”.
وأمام هذه النصوص تحفظت مصر على الاتفاقية، معتبرة أنها تتعارض مع القوانين الإقليمية والدولية التي تنظم حق الانتفاع بالأنهار والمجاري المائية المشتركة بين الدول، إلا أن مصادقة جنوب السودان على الاتفاقية من شأنها أن تحقق البند الخاص باكتمال النصاب المطلوب لتأسيس مفوضية حوض النيل، كأداة جديدة للإشراف على قضايا مياه النيل، بدلًا عن سكرتارية مبادرة حوض النيل الموجودة بالأساس في مدينة عنتيبي بأوغندا.
هذه السكرتارية التي تأسست بناء على مبادرة حوض النيل التي طُرحت في 1999، وتجد قدرًا من التوافق والإجماع، على عكس المفوضية الجديدة، التي ستكون بؤرة للخلاف بين دول المنبع ودول المصب.
التصديق على عنتيبي والجدل القانوني والفني
إن توقيع جنوب السودان يرتبط بتحولات في المواقف والأجندات السياسية، جعلتها تغير موقفها بعد 14 عامًا على طرح فكرة الاتفاقية ومرور 13 عامًا على انفصال جنوب السودان، وهو ما يعني أن الصراع لن يكون محصورًا بين دول المنبع والمصب، لكن ستدخل عليه دول أخرى ليس فقط من باب وجود مصالح في مياه النيل، ولكن كذلك من باب استهداف دول المصب وأمنها القومي وخاصة مصر التي تعتمد بنسبة 95% على نهر النيل لتوفير احتياجاتها من المياه سنويًا.
وقد ذهب البعض في مصر إلى القول إن بنود الاتفاقية تُشير إلى دخولها حيز التنفيذ بعد 60 يوماً من مصادقة 6 من الدول الأعضاء، وهو ما يعني أن الاتفاقية أصبحت واقعًا عمليًا بعد مصادقة جنوب السودان عليها، لكن ذلك لا يعطي الاتفاقية الشرعية القانونية المطلوبة والمتفق عليها، في مواجهة الاتفاقيات القانونية الدولية المنظمة لنهر النيل التي بدأ توقيع منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين..
وأن مصادقة جنوب السودان لا تمنح الدول المصدقة على اتفاقية عنتيبي الحق في اتخاذ قرارات دون الرجوع إلى دول المصب، لأن هذا يتعارض والقوانين الدولية الخاصة بإدارة المجاري المائية الدولية، كما أن الاتفاقية تظل مجرد توافق بين دول التي صدقت عليها ما لم يتم ايداعها لدى المنظمات الإقليمية والدولية مثل الاتحاد الإفريقي ومؤسسات البنك الدولي المعنية بقوانين المياه وغيرها، لاعتمادها رسميًا.
لكن هذه المقولات وغيرها يمكن تصنيفها تحت بند الجدل بين القانوني والفني، الذي لا فائدة منه ولا قيمة حقيقية يمكن أن تعود على دول المصب، وخاصة مصر، من السير خلفه والتمادي في الحديث عنه، لأن كل هذه المقولات لن تمنع الاتفاقية من الدخول حيز التنفيذ، ولن تمنع الأطراف التي صدقت عليها، والتي تحركها إثيوبيا ظاهريًا، من السعي إلى تحقيق كامل الأهداف التي يسعون إلى تحقيقها منذ عام 2010، وأن الحديث عن إيداع نسخ من الاتفاقية في المنظمات الدولية هو مجرد إجراء إداري تنفيذي روتيني، ولن تجد الدول التي صدقت على الاتفاقية صعوبات كبيرة في القيام بهذه الخطوة.
أزمة المياه والإدارة بالأوهام
إن رهانات دول المصب وتحديداً مصر على أن هناك مواجهة قانونية وسياسية طويلة تنتظر دول المنبع، لكي تصبح الاتفاقية واقعا معترفا ومعمولا به، ستكون خاسرة لأنه في الأخير هناك تجربة عملية كان النظام الحاكم في مصر منذ 2013 طرفاً فيها، وهي تجربة السد الإثيوبي على نهر النيل، حيث لم يحصل النظام المصري في إدارته للملف على أي مكسب سياسي أو قانوني أو فني.
ومن ناحية ثانية، فإن الحديث في مصر عن أن تنفيذ اتفاقية عنتيبي، دون توافق أو اتفاق، سيقود إلى شرخ في العلاقات بين دول المنبع والمصب، وسيزيد من التفرقة، هو حديث بلا قيمة من منظور دول المنبع، لأنها مع معايشتها لردود الفعل المصرية تجاه أزمة سد النهضة، يمكن الوقوف على أقصى ما يمكن أن يقوم به النظام في مصر تجاه دخول عنتيبي حيز التنفيذ، بدليل أنه رغم مرور نحو أسبوعين على تصديق دولة جنوب السودان على الاتفاقية لم يصدر رد فعل رسمي مصري تجاه ذلك.
ومن ناحية ثالثة، ذهب فريق من الخبراء في مصر إلى القول إن دول حوض النيل ليست في حاجة إلى نصيب من حصتي مصر والسودان من مياه النيل، بل إنها في حاجة إلى التخلص من مياه الفيضانات ومشاكلها، وأن بعض هذه الدول، وبتوجيهات دولية تحاول خلق حالة من عدم الاستقرار الأمني لمصر، التي يشكل نهر النيل أحد أهم دوائر أمنها القومي..
مع تأكيدهم في هذا السياق على أن مبادرة حوض النيل تُعتبر من أخطر محاولات الالتفاف الإقليمي والدولي، للوصول إلى توافق بين دول الحوض، لإلغاء الاتفاقيات التاريخية وإلغاء الحصص المائية لمصر والسودان، وإعادة توزيعها ووضع مصر وأمنها المائي تحت إرادات بعض أطراف دول الحوض بتوجيه من الخارج.
لكن هذه الوجهة من النظر، تحتاج في ذاتها إلى إعادة ضبط، لأن الحديث اليوم ليس حديث مهاترات أو مؤامرات، لكنه حديث خطط وسياسات منذ 2010 وحتى اليوم، ويتم تنفيذها كم وضعها راسموها خلال 14 عامًا مضت ومستمرون في التخطيط والتنفيذ في إطار رؤى واضحة ومحددة، ووفق سياسات معلنة..
يساعدهم على ذلك غياب الإرادة السياسية المصرية الحقيقية القادرة على التعاطي بفاعلية أكبر مع واحد من أهم وأخطر ملفات الأمن القومي المصري، وهو الأمن المائي، هذا على الرغم من صدور العشرات من التقارير والدراسات والتحذيرات التي تطالب منذ سنوات بالجدية والاستقلالية في إدارة هذه الملف.