مقاعد السلطة التي لا تلتصق أبدا

بايدن (رويترز)

في بلادنا وبلادهم تمثل مقاعد السلطة إغراءً مفهومًا تدفعه غرائز الظهور وحب السيطرة والقيادة والرغبة في الأمر والنهي، لكنْ هناك فروق كثيرة بين المقاعد الغربية وتلك القابعة في شرقنا، الأدنى منه والأقصى، فبينما تتميز الأولى بأنها عالية الجودة خفيفة الوزن قصيرة العمر، يمكن تغييرها، كما أنها مرنة تستجيب لآراء وربما ضغوط الشعب الممثل فوقها تمثيلًا حقيقيًّا لا مظهريًّا، فإن الثانية على العكس تمامًا، رديئة الصنع ثقيلة الوطء، تبحث عن الأبدية حتى وهي جامدة ومتحجرة بلا قلب ترزح فوق الشعب رغمًا عنه وتحبس أنفاسه ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا.

يفتح تخلّي الرئيس الأمريكي جون بايدن عن خططه للترشح لولاية ثانية نهاية العام الجاري حديثًا ذا شجون عن السلطة وبريقها وسحر أضوائها التي تدفع القائد إلى الإمساك بتلابيبها والتشبث بأطرافها والزحف نحوها، حتى لو كان كهلًا لا يستطيع الالتفات أو الانحناء، ويجد صعوبة بحكم الشيخوخة في وقف تأرجح الأصابع المهتزة والسيقان المعوجة والأجفان المقرحة.

الصورة الباهتة

بعد أسابيع من مناظرة استضافتها قناة (سي إن إن) بين بايدن ومنافسه السابق والحالي دونالد ترامب الرئيس السابق والمرشح الجمهوري الحالي، قرر بايدن سحب ترشحه والاستجابة لضغوط من حزبه ومن مراقبين وأصدقاء وربما من عائلته ومن استطلاعات الرأي التي أشارت إلى أن حظوظه في هزيمة ترامب خلال الانتخابات الرئاسية المقررة في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل قد تقلصت بعد ظهوره الضعيف وقلة التركيز وانعدام الحيوية التي تراكمت على أعوامه التي جاوزت الثمانين، فطبعت صورة باهتة في ذهن كل من شاهده وهو يتباطأ في الإجابة ويخطئ في الأسماء ويتلعثم في الحديث.

الإنكار أولًا والمصلحة العليا أخيرًا

في البداية أصيب بايدن بداء الإنكار، وأكد عزمه مواصلة السباق الانتخابي حتى موعد الانتخابات، لكن هذا لم يستمر طويلا، وخلال أسابيع ثلاثة تفاعلت ردود الفعل على أداء الرئيس العجوز، ولم ينطلق مؤيدوه في حملات دفاع مستميتة على طريقة “اخترناه.. اخترناه”، ولم يتجاهل أنصاره عامل السن والقدرة العقلية والأداء البطيء بل جرت مناقشات موضوعية حول مصلحة الحزب والوطن، واللافت أن قادة الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه بايدن هم الذين بدأوا بتوجيه انتقادات له سرًّا ثم علنًا إلى أن تطور الأمر لدعوات بالانسحاب والبحث عن مرشح آخر، وتداولت دوائر الديمقراطيين أسماء عديدة يمكنها أن تكون بديلًا مقبولًا يستطيع مواجهة دونالد ترامب بشعبويته، وطرحها في استطلاعات لبيان مدى قبول الرأي العام لأي منها ليأخذ مكان بايدن على قوائم الحزب الديمقراطي.

اقرأ أيضا

list of 4 itemsend of list

ما جرى في الولايات المتحدة الأمريكية درس بليغ موجَّه من الغرب الذي يقود العالم حاليًّا إلى الشرق التابع، فبينما تفصل بينهما مسافات شاسعة في الجغرافيا فإن مساحات أخرى أكبر راكمتها تجارب الطرفين تشير إلى فوارق في التعاطي مع شأن الحاكم وأحوال الحكم.

وفي بلاد الغرب تتسم العملية الديمقراطية بالحيوية، ولديها القدرة على تجديد الدماء، ولا يمكنها الوقوف أمام أبواب فرد مهما كان سموه، ولا الانكفاء على عتباته مهما علا قدره، إذ تتقدم المصلحة العامة لتزيح الاعتبارات الشخصية، وتتوارى القداسة في دور العبادة فقط.

والسياسي في منظومة الغرب شخص عادي ينتمي إلى البشرية وليس فوقها، يقوم على خدمتهم وهو بينهم وليس وهو جاثم على رؤوسهم، ويقول عالم النفس البريطاني غاي كلاكستون إن الأباطرة الرومان “كانوا حريصين على اصطحاب مهرج معهم ليسخر منهم، ويذكّرهم بذلك بأنهم بشر عاديون”.

مثال فرنسي آخر

وهناك أمثلة غربية لن ينساها التاريخ، ففي عام 1968 خرجت مظاهرات في فرنسا تقدمها العمال والطلبة، تناوئ الزعيم الفرنسي شارل ديغول (1890-1970) الذي استجاب للمتظاهرين، وقرر أن يُجري استفتاءً على توجهه إلى تطبيق المزيد من  اللامركزية في فرنسا، عبر تقسيم البلاد إلى مناطق مستقلة إداريًّا، لكن بسبب كونه من أنصار الدولة المركزية القوية، اقترح تعيين شخص في كل إقليم تكون له الكلمة العليا مما جعل الاستقلال الإداري شكليًّا، كما اتجه إلى تقليص صلاحيات مجلس الشيوخ بسبب صراعات مع أعضائه، ورغم فوز حزبه اليميني بالأغلبية في آخر انتخابات برلمانية فإنه تعهد قبل إجراء الاستفتاء بالتنحي عن منصبه إذا لم يوافق الفرنسيون على سياساته.

كان ديغول قد قضى عشر سنوات رئيسًا، وقبلها كان رئيسًا للوزراء وحاضرًا بقوة في السياسة الفرنسية، لكن بطل المقاومة خلال احتلال فرنسا في الحرب العالمية الثانية بدأ يفقد الشعبية، وبدا أن هناك تذمرًا من طول بقائه رئيسًا، فأعلن التحدي الذي دفعه إلى الاستقالة حيث دعا للاستفتاء على سياساته التي واجهت معارضة لكنه استبق الاستفتاء بإعلان أنه سيستقيل إذا لم يوافق الشعب على سياساته، وهو ما جعل الأمر كأنه استفتاء على بقاء ديغول نفسه، وكان ذلك فرصة لمعارضيه، وعندما أجرى الاستفتاء في إبريل/نيسان 1969 شهد حضورًا مكثفًا بلغت نسبته 80.1%، ورفض الفرنسيون مقترحات ديغول بنسبة 52.41% ففاجأ الفرنسيين باستقالته التزامًا بتعهده رغم أنه شخصية أسطورية بالنسبة للفرنسيين، وما زال كذلك حتى بعد 54 عامًا من وفاته.

هنا في الشرق

أما في الشرق الذي ننتمي إليه، فإن الحاكم في معظم الأحوال لا سبيل لتغييره إلا إذا حضر ملك الموت فجأة دون إنذار أو بتمهيد من اعتلال الصحة والعقل، وتحتفظ سجلات تاريخنا بالحكام الأطول بقاءً في السلطة في العصور القديمة والحديثة على السواء، وكذلك بالحكام الذين رفضوا التخلي عن السلطة تحت أي ظرف، واختاروا إراقة الدم سبيلًا لبقائهم ولم يتراجعوا مهما تكبدت أوطانهم من تمزق وتشرذم.

ونلمح فكرة “الحاكم الإله” في تراث بعض حضارات الشرق القديمة، كما نجد ظلًّا لها في أوروبا خلال العصور الوسطى حيث رأت الكنيسة أن الحاكم هو ممثل الله على الأرض ولا يجب نقده أو معارضته، لكن أوروبا دفعت ثمن خروجها من عصور الظلام وتخلت عن “الحاكم الإله”، لكن أنظمة تَعُد نفسها إسلامية ترى الحاكم خليفة الله في الأرض وترفض الخروج عليه أو عدم طاعته.

ورغم أن هناك حكامًا شرقيين تخلوا طواعية عن الحكم تحت ظروف مختلفة فإن ثمّة شكوكًا كثيرة حول سجلاتهم في مجال الحريات واحترام حقوق الإنسان، ويبقى الزعيم نيسلون مانديلا (1918-2013) استثناءً يؤكد القاعدة ولا ينفيها إذ حكم فترة واحدة بين عامي (1994-1999) ورفض الترشح لولاية ثانية رئيسًا لجنوب إفريقيا.

تمضي العملية السياسية في الغرب على نسق يمنح المواطنين الحق في الاختيار ومراجعته وتغييره إذا لزم الأمر، كما أن هناك ثقافة سائدة لدى الطبقة الحاكمة أن المقاعد تدور ولا تخلد بمن فوقها، وأن الوطن أكبر من الفرد وأبقى، وهو ما يجعل قرار بايدن الانسحاب من السباق الرئاسي أمرًا مفهومًا ومتوقعًا في مجتمع لا يَعُده إلهًا، وهي فكرته نفسه عن ذاته، ولذلك سيمضي بايدن دون أن يلتصق بمقعده في مكتبه بالبيت الأبيض، فهذا المقعد من ذلك النوع الذي “لا يلتصق أبدًا”.

أما معضلتنا الرئيسية في الشرق فهي أن مقاعد الحكم من ذلك النوع الرديء الذي يلتصق بالحاكم، دون أن يسمح للشعب بزحزحته ولو قليلًا من أجل بعض الهواء اللازم للصدور المختنقة والأفئدة المتعَبة.

المصدر: الجزيرة مباشر

إعلان